في مقالات سابقة، كنت قد نوهت إلى أن ما ينمو في احشاء الكيان الصهيوني من خلال قراءة اجتماعية تعرضت له وسائل الإعلام للعدو الصهيوني، في كثير من التحليلات إلى أن الخلافات السياسية في البناء السياسي لدولة الاحتلال، هو جزء لا يتجزأ من السمات المشوهه لطبيعة البناء الديمقراطي المزعوم، وهذه السمة ارتكزت في كل تاريخ دولة الاحتلال على تقاطعات استقرت في الخطاب الخارجي لهذه الدولة.
وارتكز على أن هذا الكيان هو دولة ديموقراطية وحيدة في الشرق الاوسط منطلقة من أن كل الجوار لا يتمتع بهذا المستوى من الديمقراطية والدولة المدنية، وأن أغلبية الدول المحيطة دول بهويات دينية لا تقبل الآخر، وأن كل هذه الادعاءات بدأت تتلاشى بشكل تدريجي وتحولت عمليات الفك والتركيب في الأحزاب المكونة لدولة الاحتلال عملية مرتهنة بمحاصصات شخصانية، ترتكز على قدرتها على التكتيك السياسي كغطاء ولكنها اعتمدت بالأساس على الانتهازية السياسية في صياغة التحالفات والعلاقات.
وهو ما انعكس على الساحة الصهيونية على مسار عقد ونيف من الزمان، وخلال الترهل الكارثي وتراجع ما سمي بحزب العمال، وغيابه الكلي الذي مهد الارضية لبروز الوجه الحقيقي لهذا الكيان، وهو ما جعل الثقل التصويتي للتكتلات المتطرفة والدينية العصبوية، والتي ترى في الكل البشر خدما لاستحقاقاتها، إذ فرضت على قيادة اليمين الاقل تطرفا ونعي هنا حزب الليكود وبقيادة صاحب الرقم القياسي في الانتهازية السياسية بنيامين نتنياهو والذي حرص خلال فترة رئاسته للحكومات الصهيونية المتعاقبة على احداث تغيير جذري من الادنى الى الاعلى اتجاه الوظائف الكبرى والحساسة والمفصلية بتوظيف كل القيادات الشعبية والاجتماعية والسياسية والروحية والدينية لهذه الاحزاب في مركز القرار من عناصر متطرفة ومعروفة بفكرها وايدلوجيتها التي تتجاوز معايير أي منظمات متطرفة وجدت في العالم.
لذلك كل فترة رئاسة كان يعمل نتنياهو بشخصه على عملية إحلال ضخمة لكل مناصريه وداعيمي سياسته، محل أي صاحب مسؤولية معارض ونعني بصاحب مسؤولية أن ذلك لم يمارس فقط على البنية الفوقية للاحزاب (النخبة)، إنما اتبعت هذه السياسة حتى على صعيد تشكيلات الادارات المدنية والنقابات، وهو ما انعكس على ضعف دور نقابة العمال الصهيونية ذائعة الصيت (الهستدروت).
كل ذلك أدى ومن خلال اعطاء قطعان المستوطنين هذه المفاصل المسؤولة في الإدارات وقيادة النخب الدينية، جعل منها قوة هائلة ضاربة تعتمد في دمويتها وعنفها على أيديولوجية صهيونية لا تقبل الآخر مهما كان حليفاً أو قريباً.
من هنا جاءت الانتخابات الصهيونية الأخيرة لتظهر الحقيقة الواضحة، والتي لم تغب عنها الشمس، بأن كل ذلك التماهي مع مفهوم الديمقراطية والدولة المدنية هو وسيلة من أجل التعاطف الدولي، للوصول إلى هذه النتيجة والتي هي معبرة عن مشروعها الحقيقي القائم على التهويد، وحتى أنها خلقت معايير قياس جديدة لمن هو اليهودي.
هذا هو الجوهر والمضمون والظاهر والباطن الذي يعبر عن الأيديولوجية الصهيونية من منطلقاتها النظرية والفكرية، لهذا السبب بالضبط بدأت الدولة الأردنية بشكل متدرج ومتأن في التركيز على ذلك التحول، وأنه سيؤدي إلى ما لا يحمد عقباه فمنذ عقد من الزمن وجلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين يحذر بأن العنف السياسي والأمني وسياسة الاقتلاع والإحلال والتهويد واللاتفاف على أي مكتسبات تحققها الحركة الأسيرة المجيدة، لا يمكن أن يؤدي إلا إلى صدام يمهد له من خلال اعطائه صبغة دينية، ولكنه في جوهره صراع سياسي أولاً، للوصول إلى الصراع الديني، لذلك جعل جلالة الملك إعادة تحديث الذاكرة الدولية بأن القضية الفلسطينية تتعرض إلى سياسة القضم الناعم على الأرض وفي التحولات السياسية، وأن عدم التدخل في إعادة تحديث ذاكرة كيان الاحتلال بأن الثوابت القانونية والتاريخية والسيادة العربية والوئام الذي ترسخ في العهدة العمرية هو الخط الفاصل ما بين الصدام الشمولي وما بين السلام والاقتصاد والازدهار، كل ذلك لم تسمعه الدول الغربية إلا أخيراً بعدما أثبتت تحذيرات جلالة الملك والتي لم تكن نظرية فقط، إنما عملية من خلال عدم اعطاء أي فرصة للقاءات سياسية على مستوى رفيع، وظلت العلاقة مع الكيان الصهيوني في أدنى أدنى مستوياتها.
هذا ما يفسر ويجيب عن الاسئلة الكبرى التي طرحت اثناء محاولة تمرير «صفقة القرن» أسباب جمود التطبيع السياسي بين الأردن والكيان المحتل، والجواب كان واضحاً بالممارسة والتطبيق من قبل جلالة الملك الذي يقود باقتدار وحكمة مسيرة الدبلوماسية الأردنية كمحور أصيل من محاور الإسناد الاستراتيجي للشعب العربي الفلسطيني، وكل قواه وتجلياتها الدولية واضحة المعالم.