د. زيد حمزة
بعد الحرب العالمية الاولى ١٩١٤-١٩١٨ أعادت الدول الاستعمارية تقسيم العالم فيما بينها فشهدنا مثلًا جيوش احتلالها تجوس ديارنا وتقيم معسكراتها في مدننا وتزدري مشاعرنا الوطنية وتهمل مرافقنا وفي مقدمتها التعليم، وفي أقل من قرن تغيرت الدنيا كثيراً نتيجة الحرب العالمية الثانية (١٩٣٩-١٩٤٥) التي أنهكت تلك الدول وتلتها ثورات التحرير الشعبية فاضطرت كثير منها التخلي عن مستعمراتها او تراجع بعضها أمام دول جديدة طمحت للحلول محلها وابرزها الولايات المتحدة الأميركية التي ازاحت في منطقتنا معظم نفوذ بريطانيا وفرنسا، أما الأخيرة فقد بدّلت جلدها في أفريقيا لمواءمة الظروف المستجدة إذ بعد انسحابها منها ظاهريًا قامت بتقييدها باتفاقات اقتصادية مجحفة تبيح للشركات الفرنسية الاستمرار في استغلال اربعة عشر بلداً أفريقيا ونهب ثرواتها من المعادن الثمينة خاصةً تلك التي تدخل هذه الأيام في صناعات الكومبيوتر والتكنولوجيا الحديثة، كما تلزمها باستعمال الفرنك الفرنسي عملةً أساسية في التبادل التجاري الخارجي حيث تتحكم في سعره خزينة الحكومة الفرنسية، وكل ذلك وكثير سواه جاء بالتفصيل الموثّق في رسالة الكاتب الهندي الكبير ڤيجاي پراشاد الشهر الماضي من ((معهد القارات الثلاث للدراسات الاجتماعية)) ففسّر كثيرا من الانقلابات العسكرية والحروب القبلية التي تدبرها استخبارات الحكومة الفرنسية ثم ترسل قواتها العسكرية إلى تلك الدول لحفظ الامن فيها ليس رأفةً بسكانها طبعاً بل لضمان نهب المزيد من خيراتها وبالتالي إفقارها اكثر فأكثر! ومن الطريف ان يتطرق پراشاد في رسالته التالية من المعهد قبل ايام إلى هيمنةٍ مشابهة من قبل الولايات المتحدة الدولة الإمبريالية الكبرى فيكتب تحت عنوان صريح مباشر ((الطريق الى التخلي عن الدولار في التعاملات التجارية الدولية سوف يمر عبر العربية السعودية))، وهو آخر ما كان يتوقعه أشد المتشائمين في اميركا نفسها بعد عقود من العلاقات الاستراتيجية الحميمة مع السعودية، وهي ليست بالطبع العلاقات التي وصفها باستهانة واستخفاف الرئيس السابق دونالد ترمب! ثم ازدادت وتيرة المخاوف الأميركية إثر زيارة الرئيس الصيني الاخيرة الى السعودية وتطور العلاقات بين البلدين لخدمة مصالحهما المشتركة باحترام متبادل وبالوسائل المشروعة والأهداف السلمية المحضة.
وفي افريقيا تحديدًا تحاول فرنسا إبعاد الصين (وروسيا)عن دول كانت تستعمرها لأكثر من قرنٍ من الزمن ومازالت حتى الان فقيرة ممزقة، وتحاول اميركا بدورها وأكثر من اي حين مضى صد ما تسميه التسلل الصيني للقارة المنكوبة بتلويح رئيسها جو بايدن قبل أيام بمكافأة دولها بحزمة مساعدات مالية تبلغ عشرات المليارات على مدى السنوات القادمة، مع أنه أصبح مفضوحًا ضلوع استخباراتها في التغلغل في كثير منها وتزوير انتخاباتها وتدبير الانقلابات في بعضها وتأجيج النزاعات المسلحة فيما بين بعضها، وتشاركها أحيانًا، سراً او علناً، حليفتُها الاستراتيجية إسرائيل حد اختراق منظمة الاتحاد الأفريقي والتحالف مع دول أعضاء فيها كانت ذات يوم حليفةً لفلسطين قلباً وقالباً !
وبعد.. فإن الدول الاستعمارية لن تتغير بتغيير جلدها بل بالتخلي عن اقتصاد السوق المنفلت الجشع، ولا يجدي تبجحها زوراً بالديمقراطية او بحقوق الأنسان!