إن سمة الوعي الجمعي هو الثبات على الاقدم دائما، لأنه يعفي هذا الوعي من كل جديد أو مبهم، فدائما عدم معرفة وتجربة أي شيء يضع الإنسان في تشكيك وخوف من أي شيء لا يملكه في ذاكرته ولم يعهده في خبرته، وهو حدث إنساني طبيعي، فالخوف من المجهول سمة من سمات الإنسانية، لذلك عندما شرع جلالة الملك في طرح مشروع الإصلاح الشامل كان على قناعة مطلقة بأن الوصول إلى تحول في الوعي الجمعي اتجاه الديمقراطية يتطلب تدرجا وعصفا ذهنيا بتأن ودون قفزات في المجهول.
ثقة الشعب الأردني في البعد الاستشرافي السياسي لجلالة الملك هو إحدى ركائز ثبات ووجود أردننا الحبيب، وهو ينطلق من تلك الثقة المطلقة في الانخراط والانغماس في كل مهمة يقودها الديوان الملكي العامر.
لكن جلالة الملك كان على قناعة مطلقة أن مفهوم المعالجة بالصدمة سيؤدي إلى فوضى وعدم يقين، لذلك كان التدرج والتأني أهم مرتكزات عملية الإصلاح الشامل، ومثال على ذلك كان أولى الاستشرافات ينطلق من البعد الروحي والديني، وأهمية استباق خطاب التطرف والإرهاب لذلك أطلق جلالته رسالة عمان والتي جاءت قبل عقد من ظهور المنظمات الإرهابية وعلى رأسها (داعش)، من أجل إيجاد التوافق على خطاب إسلامي موحد لمواجهة القادم، لأن القدرة الاستشرافية لجلالته كانت قد تلمست أن التطرف والإرهاب بغض النظر عن هويته الدينية، سيكون عاملا حاسما في ?وضى المنطقة والعالم، وهذا ما حصل بسبب ظهور التنظيمات الإرهابية.
لذلك كانت رسالة عمان أساسا في بعث رسالة لتصل إلى كل التيارات الإسلامية، والكل يعلم أن جميع ممثلي هذه التيارات قد حضروا إلى عمان وتوافقوا على «الرسالة» رغم ذلك لم يطبق احد مضامين رسالة عمان، والتي كانت تهدف إلى توحيد الخطاب الإسلامي على قاعدة الوسطية والاعتدال والأنسنة لمواجهة خطاب التطرف.
وحصل ما حصل من خلال تجذر التطرف الديني، وتجذر مفهوم الشعبوية البغيضة وأصبح اليمين يسيطر على معظم الدول الغربية وصولا الى اللعب بورقة السنة والشيعة، كل ذلك يعتبر جنوحا إلى التطرف من كل التجمعات الإنسانية.
وهو ما حذر منه جلالة الملك وأصبح بالنسبة للهاشميين هدفا محوريا في توحيد الخطاب الإسلامي.
هذا المثال يتطابق تماما مع مشروع الإصلاح الشامل كركيزة من ركائز حكم جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين، مستبقا ثورات ما سمي «بالربيع العربي» بطرح عناوين كانت شعارات لمعظم تلك الثورات من خلال البدء ببرنامج متدرج تمثل في أوراق جلالته النقاشية محذرا أن كرامة الإنسان العربي ورغبته بالمشاركة السياسية الأوسع والشفافية، ستكون عناوين ممكن ان تنقلب عليها دول ومجتمعات، وهذا ما حصل عندما لم يكترث احد لما يقوم به جلالة الملك على صعيد البناء الاردني الداخلي وخاصة بفهم أسباب ظهور الأوراق النقاشية، وكانت ثورات الربيع ?لعربي وارتداداتها والتي رفعت شعارات المشاركة والكرامة والشفافية ومكافحة الفساد وهي عناوين الاوراق النقاشية قبل انبثاق وتبلور تلك المطالب كشعارات للتحولات الثورية التي حصلت في الوطن العربي.
هذان المثالان قد ادرجتهما للرد على من يقول ان التحديث السياسي والاقتصادي والاداري هي قوانين وتشريعات وتحولات جاءت بشكل صادم لذلك من الصعب جدا ترجمتها على ارض الواقع وهو كلام مغلوط تماما فان قوننة قوانين الاصلاح والتحديث السياسي تدرج بها جلالة الملك منذ عقدين عندما استهدف في كل ورقة تهيئة الوعي الجمعي الاردني بشكل متدرج اكرر ليهيء البيئة المعرفية والاصطلاحية لهذا الوعي حتى يستطيع استيعاب تجليات ذلك الاستهداف الملكي للوعي الجمعي الاردني تحت شعار الديمقراطية والعدالة والمشاركة الاوسع ليكون هذا الوعي قادرا على?امتصاص وفهم تجليات ذلك الاستهداف والتي ترجمت من خلال اللجنة الملكية للتحديث السياسي وقوننة مخرجات هذا العصف الذهني والحوار الوطني الشامل من خلال القوانين الاصلاحية الاحزاب والانتخاب والادارات المحلية والتي لم تقدم جديدا بالاطار النظري لان مضامين كل تلك القوانين كانت موجودة في اوراق جلالته السبع فليس هناك صدمة هناك تغيب لفهم اعمق لتلك الاوراق واسباب طرحها وهذا ما جعل قوى الشد العكسي تحارب بكل وسائل عملية التحول لكن اصرار جلالة الملك ان التحديث السياسي بمضامينه التنموية والادارية والسياسية خط احمر ما زال هنا? كثير من المؤسسات والشخصيات الوطنية يشككون في جدوى هذا التحول ولكن جلالة الملك بين كل فترة واخرى يعيد التذكير بان هذا التوجه حتمية تاريخية لا يمكن التراجع عنها وعلى من يشكك بأهمية هذا التحول لوطننا الحبيب في مئويته الثانية ان يتنحى جانبا مهما كان موقعه ومسؤولياته.
من خلال هذا البعد الذي يتسم بحكمة هائلة قام جلالة الملك بزيارته الخاطفة الى رئاسة الوزراء لاعادة انتاج مفهوم الخطوط الحمراء ويبعث برسالة واضحة المعالم للقاصي والداني للخارج اولا والداخل ثانيا بان محور المهام الاردنية ذات الابعاد الداخلية والخارجية يرتكز من خلال معيار قياسي واحد وهو اسناد هذا التحول والتكامل بين الكل الاردني للوصول الى النتائج المرجوة والمتمثلة باستكمال مهام التحول الديمقراطي وانه لن يسمح بالتراخي او بالتهاون مع مشروع المرحلة القادمة وهو استكمال مهام التحول دون قيد او شرط وان التعامل مع تلك?الرؤى التحديثية يجب ان ينضج في سياق التسريع بخطة العمل العابرة للحكومات وخاصة في البعد الاستثماري والاقتصادي في مسار
وفي مسار آخر والذي تتبلور معالمه في احشاء الحراك السياسي والحزبي الأردني فقد بعث جلالته برسالة واضحة بأن الشخصنة في بلورة وتشكيل الأحزاب السياسية مرفوض جملة وتفصيلا فتوسيع دائرة المشاركة السياسية يتطلب انفتاحا كليا على المجتمع وليس انعكاسا آخر وثوبا جديدا لصالونات النخبة السياسية والرجعية والتي تتسم بتكلس ذهني وتحاول إعادة انتاج ذاتها من جديد تحت يافطة التحديث السياسي.