ليست المرة الأولى ولن تكون الأخيرة التي نفتح فيها ملف التمويل الخارجي, سواء التمويل المعلن الذي يمر عبر القنوات الرسمية أو المعلنة, أو ما أسماه زميل تقارير الظل وما يصاحب هذه التقارير من ظلال على المجتمع والحالة المحلية, والصنف الثاني أكثر خطورة, ليس لأنه مجهول النسب ولا نسمع عنه إلا من التقارير الدولية أو من التسريبات الديبلوماسية, فقط, بل لأنه أقرب إلى مفهوم التجسس منه الى التقارير المنهجية أو قياسات الرأي العام, هذا الملف بات ضاغطًا على عصب الدولة وليس الحكومة, وفتح الأبواب لتدخّلات تأخذ شكلًا ناعمًا, كما حالة سفير دولة اوروبية صديقة, وأحيانًا تأخذ شكلًا خشنًا كما في تسريبات وتغريدات مسؤولين صهاينة وعرب, وربما نموذجها الأوضح ما تتناقله أبواق أردنية في الخارج يجري تمرير المعلومات لها وفق حسابات دقيقة.
ليس التمويل كله بالقطع سلبيًّا ويؤخذ شكل العبث, فثمة علاقات بين الدول ومؤسسات مدنية تسمح باستقبال هذا التمويل الهادف فعلًا إلى تنمية المجتمعات وتمكينها, ونسمع كل يوم عن تمويل لمشاريع حيوية أو دراسات نوعية وتدريبات تمكينية, وما نقصده ونترصده هنا, التمويل الذي يأخذ شكل العبث الوطني, ودعم جماعات النشاز الاخلاقي أو السياسي, أو تقارير الحريات ورصد تقدمها أو تراجعها, والتي تُدار من قبل مجموعة محدودة لكنها عالية الصوت حد الفُجر, باتت اليوم تعيش حياة البذخ بكل معانيه, وتتحدث عن الحريات والحوكمة وهي مؤسسات عائلية بحتة, فأين الحوكمة والحرية داخل هذه المؤسسات نفسها, ولماذا تمعن في التركيز على السلبيات دون أدنى حلول أو موضوعية؟ والجواب واضح, فهذه الكيانات الصغيرة تعيش على بقاء الظواهر السلبية وتسعى إلى تكريسها كي تزداد قيمة التمويل وتتعاظم الفائدة الشخصية.
تعالوا نقرأ ظاهرة اجتماعية مثل ظاهرة شغب الملاعب والثنائية الكروية, ونرى ماذا قدمت مؤسسات التمويل الخارجي من مقاربات وتحليلات للظاهرة السائدة منذ ثمانينيات القرن الماضي وليس منذ اليوم, الجواب لا شيء سوى إذكاء نار التعصب والفتنة, من خلال رصد وبث الهتافات المقززة والفيديوهات التي تحث على التعصب, لم تتصدَ مؤسسة واحدة من تلك المؤسسات إلى قراءة تاريخية لتشكيل النوادي الأردنية وشكل تبعيتها لوزراة الشباب أو لوكالة الغوث إلى ما قبل العام 1988, لم تقرأ حجم التعصب النادوي المعروف عالميًا, ونقارنه بحجم التعصب الهويات حتى نستطيع الممايزة بين التعصب النادوي من حجم التعصب الآخر, ونضع الحلول اللازمة, وحتى تكون الصورة واضحة, فمثلًا كانت الثنائية في كرة الطائرة بين ناديين ينتميان وجودياً إلى مخيمين في الأردن, وكانت تحدث أعمال شغب بينهما وهتافات غير لائقة, كذلك في كرة السلة كانت الثنائية بين ناديين ينتميان إلى عمان الغربية ومن أندية الثراء ومع ذلك كانت أعمال الشغب حاضرة وكذلك الهتافات الخشتة.
كل هذا لم يلتفت إليه أحد من مؤسسات التمويل, ولكنها تقف وتبكي دموع التماسيح على الوطن المجروح في ملاعب كرة القدم, وتبكي على النزف الوطني الذي يتدحرج بين أقدام اللاعبين في المستطيل الاخضر, علما بأنها هي وفئة ليست قليلة نفخوا الكرة بكل السموم البغيضة, هل قصرنا في الإعلام أيضًا وفي القرار الرسمي الحاسم والذي يفرض هيبة الدولة, الجواب بالفم الملآن نعم, بدليل أن كل التنمر والتغريدات والكتابات الجارحة, تراجعت مع أول تحويل الى الادعاء العام, ولكن ليس هذا الحل وحده على شدة أهميته, بل الحل في مشروع وطني ثقافي وإعلامي يمايز بين التشجيع المتعصب وهذا موجود وبين العبث بالهوية الوطنية والنسيج الاجتماعي, وهذا دور إدارات الأندية أيضًا, التي تورط بعضها في اللعبة لغايات شخصية ولغايات أوسع من الشخصية.
ما نحتاجه اليوم حسم رسمي وحكومي بالتصدي لكل عابث من مؤسسات التمويل, ولكل عابث بالنسيج الوطني فالوطن ليس كرة في الملاعب, ولا «شيك» بعملة أجنبية.
[email protected]