منذ نصف قرن بدأنا ندخل حقبة غريبة شاذة بغياب الفلسفة عن مناهجنا، لكن ليس عن حياتنا كما اشتهى الذين غيّبوها عنوةً، وقُل كذلك غدراً وتآمراً مع من استهدفوا في الاصل تلك التي تحض على العدالة الاجتماعية، واتخذوا الدين لهم ستارًا.. أما اليوم وقد قررنا العودة لأحضانها فإننا نجد أنفسنا نتلمس الطريق بخشية وحذر بعدما تعودت عقولنا المدرسية والجامعية على الأقل ولتلك الفترة الطويلة من الزمن، كيف تُعمل الفكر وتحاول الفهم والاستنباط دون الاستعانة بعلوم الفلسفة ما حرمنا من نعمة السؤال وسيلةً لبلوغ السعادة في العثور على الجواب، ولزوم الشك سبيلاً للوصول إلى فضاء الدهشة والروعة ومن ثم الولوج إلى دروب الشغف والمتعة والاشتياق للحق والخير والجمال والحب والحرية، كما سعت البشرية من قبلنا واشتهت عبر آلاف السنين، فحمل هذه الرسالة الكبرى منذ القِدم فلاسفة كبار بقينا من بعدهم نتكئ على قواعد منطقهم ونصغي لأصداء جدلهم واختلافهم، من أجل فك طلاسم مازال كثير منها منغلقا علينا ولا نتفاجأ بالمزيد والجديد.
ينهض بهذه المهمة الكبيرة عندنا الآن المركز الوطني لتطوير المناهج نيابة عن الدولة التي أدركت بعد طول معاناة في مسيرتها التعليمية ضرورة الفلسفة مصاحبةً للعلوم ومساعدة ًعلى فهم شؤون الحياة من خلال الثقافات والعقائد على اختلافها وتقاطع اتجاهاتها، ومن الجدير بالذكر أن رئيس المركز الدكتور عزمي محافظة كان رئيسًا للجامعة الاردنية حين صدر قرارها التاريخي عام ٢.١٧ بإعادة تدريس الفلسفة لطلبتها رغم معارضة قوى الشد العكسي، فسُقنا له التحية يومئذ، وقال الدكتور موسى الناظر آنذاك في كلمته بمناسبة اليوم العالمي للفلسفة مؤيدًا الدعوة لتعليمها في المدارس وحتى للأطفال ((إيماناً بانهم بطبيعتهم فلاسفة يملكون من القدرات العقلية ما يدفعهم لأن يسألوا وبعناد (ماذا؟ لماذا؟ كيف؟)... العمل الفلسفي يرتبط بالقدرة وليس بالعمر))..
وقد بدأ المركز الوطني الأسبوع الماضي عمله بثقة بالنفس عالية بدت جليةً في نبرة رئيسه في الجلسة الافتتاحية التي دعيتُ لحضورها صديقًا للفلسفة من حيث المبدأ ومتابعا ًيحرص على نجاح قرار استعادتها،بهمةِ وعزيمةِ مجموعةٍ من مفكرينا واساتذة الفلسفة عندنا الذين استمعت لهم جميعاً يتحدثون عن ايمانهم بإعادة الفلسفة الى مناهجنا، وقد شاركتُ بكلمات قليلة عبرت فيها كطبيب معنيّ بالشأن الصحي العام عن قناعةٍ لا تتزعزع بان الفلسفة جزء لا يتجزأ من أي نشاط انساني وضربت مثلًا بالرعاية الصحية الأولية التي تقضي فلسفتها حسب منظمة الصحة العالمية بتوفير الخدمات للجميع بعدالة، وفي الوقت نفسه مواجهة المساعي المحمومة التي تبذلها جهات اخرى عديدة لتسليع هذه الخدمات من اجل مراكمة أرباحها..!
وبعد.. فالمهمة ليست سهلة، لأن اعداء الفلسفة ما زالوا يتربصون بها..!