مع استمرار الحرب بين روسيا وأوكرانيا أو بين روسيا والغرب بالمعنى الجيوسياسي فإن من الصعوبة بمكان التنبؤ بالمآلات التي ستتمخض عنها، لكنّ المتأمل في هذه الحرب المستعرة يجد أنها حسمت أموراً عديدة وكرست حقائق معينة لا بدَّ من الالتفات إليها، ولعل أهمها: أولاً: عدم إمكانية انضمام أوكرانيا إلى حلف «الناتو»، وقد كان الرئيس الأوكراني صريحاً مع نفسه ومع شعبه حين صرح بأنه لم يعد من الممكن في ضوء الأوضاع المستجدة الانضمام إلى هذا الحلف، وقد أيّده ضمناً أو علناً بعض أعضاء الحلف كبريطانيا مثلاً.
ثانياً: كون الاقتصاد العالمي أصبح اقتصاداً «مُعولماً» متداخلاً، ففي حين فرضت الدول الغربية عقوبات اقتصادية مؤثرة على روسيا، اعترفت أمريكا أنّ هذه العقوبات ستترك آثاراً في الولايات المتحدة نفسها، كما أن الدول الأوروبية تعاني الآن من هذه العقوبات أيضاً وتتخوف من مضاعفتها وبخاصة ما يتعلق منها بالنفط والغاز، وفضلاً عن ذلك فإنّ هناك تخوفات من انعكاس آثار هذه الحرب على بعض دول العالم على شكل مجاعات في إفريقيا بحكم أن روسيا وأوكرانيا تصدر أكثر من 30% من القمح الذي يستهلكه العالم. لقد أحدثت هذه الحرب ارتباكاً في ا?اقتصاد العالمي وهذا يدل على أن هذا الاقتصاد متشابك ومتداخل.
ثالثاً: بداية نهاية عالم القطب الواحد والاتجاه نحو عالم القطبين أو العالم المتعدد الأقطاب فها هي روسيا تتحدى الغرب وتقف إلى جانبها وإن ليس بشكل علني ومحسوم دول وازنة مثل الصين (ثاني اقتصاد في العالم)، والهند، وباكستان، ودول أخرى كثيرة، وفي هذا إشارة واضحة إلى أن أميركا لم تعد كما كان عليه الحال بعد سقوط الاتحاد السوفياتي الدولة العظمى الوحيدة التي تتربع على عرش العالم. ثمة قطب جديد يتشكل وقوامه بدرجة أساسية كل من روسيا والصين وكلاهما قوة نووية واقتصادية على مستوى عالمي ويدور في فلكهما عدد غير قليل من الدول? رابعاً: اتضاح الازدواجية الغربية في التعامل مع القضايا المختلفة منطلقة من مصالحها لا من مبادئها، فقد أباحت الدول الغربية (وبالذات الولايات المتحدة وبريطانيا) غزو العراق بدون قرار من مجلس الأمن، وكذلك فعلت مع ليبيا، ولكنها الآن تأخذ على روسيا أنها خرجت على مبادئ ما يُسمى «بالشرعية الدولية»، كما أنّ هذه الدول رحبت بالمهاجرين الأوكرانيين ووفرت لهم كل ما يلزمهم من استقبال جيد، واحتياجات حياتية وسفر إلى أيّ دولة أوروبية يريدون، ولكنها اعتبرت أن مسألة الهجرة من سوريا ومن إفريقيا خطراً عليها يجب تجنبه بأيّ ثمن وإ?ى الحد الذي دفعت في إطاره ستة (6) مليارات دولار إلى تركيا كي تحول دون الهجرة إلى أراضيها!، أمَّا ازدواجية الدول الغربية في التعامل مع الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، فمسألة فاقعة واضحة لكل ذي عينين!.
خامساً: بروز حدود للقوه العسكرية مهما بلغت من جبروتها فروسيا تملك ثاني أقوى جيش في العالم (بعد الولايات المتحدة)، وتستحوذ على أسلحة تقليدية هائلة ومتقدمة (ناهيك عن النووية) الأمر الذي جعل المحلل والمتابع يفترض أنّ هذا الجيش سوف يحسم الحرب في أسبوع على الأكثر، ولكن من الواضح أنه لم يستطع. صحيح أنه سوف ينتصر في النهاية، وصحيح أنه الحَقَ دماراً هائلاً في البنية العسكرية التحتية لأوكرانيا وقضى على آمالها في أن تصبح خطراً عسكرياً على روسيا، ولكن الصحيح أيضاً أنه لم يستطع حسم الحرب بالسرعة التي كانت متوقعة، وذلك?بسبب الإعداد الأوكراني المسبق للحرب، والدعم الغربي السخي، وعدم رغبة كثير من الأوكرانيين في التبعية لروسيا. إنّ كل ذلك يشير إلى حقيقة لا شك فيها وهي أن للقوة حدوداً، وهذا ما حصل في الواقع مع الولايات المتحدة حين غادرت فيتنام شبه مهزومة في عام 1975، وحين غادرت أفغانستان في العام الماضي مضطرة ومضطربة وبعد عشرين سنه من التمركز في تلك البلاد.