محمد يونس العبادي
توثق مذكرات جلالة الملك عبدالله الثاني، فرصتنا الأخيرة، لعديدٍ من المحاور المهمة التي تشرح جانباً من تاريخنا وحاضرنا المعاصر.
وبين هذه المذكرات القيمة، شرح يقدمه جلالة الملك لرسالة عمّان، بقول جلالته «في أواخر عام 2004 دعوتُ جمعاً من العلماء المسلمين إلى الأردن، وطرحت عليهم سؤالاً حول ما تقترحونه من سبلٍ لمكافحة التكفيريين وما يطرحونه من آراء وأفكارٍ هامة، وطلبت من ابن عمي الأمير غازي بن محمد، العالِم الإسلامي ذي المكانة المرموقة، وهو يحمل شهادة دكتوراه من جامعة كابريدج، أن يقود عمل المجموعة وينسق بين أفرادها. وتوصل العلماء الأجلاء إلى وضع وثيقة بعنوان «رسالة عمان».
لقد جاءت هذه الرسالة، بوقتٍ كان يتعرض فيه الإسلام إلى هجمة شرسة.
وتوضح مذكرات جلالة الملك عبدالله الثاني، الدور الرائد الذي قاده الأردن، لحكم شرعية قيادته الهاشمية، في التصدي وإيضاح هذه المفاهيم، إنّ لم تكن الرسالة هي اللبنة الأولى التي أعربت للعالم، وأوضحت له مفاهيم حقة، حول الإسلام وسمته المتسامحة، ودعا إلى التفرقة بين التطرف والإسلام.
وهذا ما تشرحه الرسالة، والتي نشرت في التاسع عشر من تشرين الثاني عام 2004م، وقد ضمنها جلالة الملك عبدالله الثاني، في كتابه فرصتنا الأخيرة.
إذ جاء في مطلع رسالة عمّان «إنّ رسالة الإسلام السمحة تتعرض اليوم لهجمة شرسة ممن يحاولون أنّ يصوروها عدواً لهم بالتشويه والافتراء، ومن بعض الذين يدعون الانتساب إلى الاسلام ويقومون بأفعالٍ غير مسؤولة باسمه.. وهذا الدين ما كان يوماً إلا حرباً على نزعات الغلو والتطرف والتشدد، ذلك أنها حجب العقل عن تقدير سوء العواقب والاندفاع الأعمى خارج الضوابط البشرية ديناً وفكراً وخلقاً، وهي ليست من طباع المسلم الحقيقي المتسامح المنشرح الصدر، والاسلام يرفضها (مثلما ترفضها الديانات السماوية السمحة جميعا) باعتبارها حالات ناشزة?وضروباً من البغي».
لقد جاءت الرسالة في توقيتٍ دقيقٍ بعد نحو ثلاث سنوات من هجمات سبتمبر، وفي وقتٍ اشتدت فيه سواعد الارهاب المتطرف باسم الدين، وأسست الرسالة ومهدت للخطوة التالية، إذ يقول جلالة الملك عبدالله الثاني «كنت مدركاً، طبعاً، أنّ رسالة أو بياناً أو وثيقة مصدرها الأردن وحده لن تكون كافية لصد التكفيريين والوقوف بوجههم بعد أن بثوا سمومهم في أرجاء العالم الإسلامي».
ويشرح جلالة الملك عبدالله الثاني، جهوداً عظيمة بالتواصل مع علماء المسلمين في جميع أنحاء العالم، وهم علماء من ذوي المكانة المرموقة ويمثلون جميع المذاهب والمدارس الفكرية، وقد عقد مؤتمر في عمّان في تموز 2005م، شارك فيه مندوبو أكثر من خمسين بلداً وأصدر العلماء المشاركون فتوى بشأن مسائل ثلاث، وهي: تعريف المسلم؟ وهل يجوز التكفير؟ ومن له الحق بالتصدي للإفتاء؟
وجاءت الاجابات شارحة للعالم الاسلامي هذه المرة، فتوى من كبار العلماء، حيث إن «كل من يتبع أحد المذاهب الأربعة من أهل السنة والجماعة (الحنفي، المالكي، الشافعي، والحنبلي) والمذهب الجعفري، والمذهب الزيدي، والمذهب الإباضي، والمذهب الظاهري، فهو مسلم ولا يجوز تكفيره».
كما أكّد العلماء المشاركون في هذا المؤتمر «أنّ ما يجمع بين المذاهب أكثر مما بينها من اختلاف»، بالإضافة إلى أنّ هذا المؤتمر أفتى بأنّه «لا يجوز الافتاء دون التقيد بمنهجية المذاهب، ولا يجوز لأحدٍ أنّ يدعي الاجتهاد أو يستحدث مذهباً أو يقدم فتوى مرفوضة..».
لقد قام الأردن بقيادة جلالة الملك عبدالله الثاني، في مرحلةٍ مهمة من تاريخ أمتنا بجهدٍ وواجبٍ كبيرين، تجاوز فيها حدود الجغرافيا، وكرس ملمحين مهمين، وهما: أنه وجه الخطاب للعالم الإسلامي وللعلماء، ثم خاطب العالم شارحاً مفاهيم الاسلام بلسان العلماء أنفسهم.
وهذا الجهد الذي قاده جلالة الملك عبدالله الثاني، واكبه إيمان جلالته بأنّ «أمضى الأسلحة بوجه التكفيريين اثنان: التعليم وفتح مجالات الإنجاز أمام الأجيال الطالعة، وهذا لا يعني فتح المزيد من المدارس والجامعات وحسب، ولكن أيضاً، تحسين نوعية التعليم الديني».
إنّنا اليوم، ونحن نحتفي بمئوية الدولة الأردنية، نحتاج إلى تذكر الماضي القريب وتوثيقه، ورواية ظروفه للأجيال، فالأردن قدّم وصاغ خطاباً حصن الاسلام في توقيتٍ كانت فيه الهجمة تزداد عليه، بالإضافة بث العديدين لسمومهم في تفكير أجياله. وهذا الدور الأردني بقيادة جلالة الملك عبدالله الثاني، هو جهد محل اعتزاز، ونجح في إيضاح الكثير من المفاهيم، وخلق ثقافة تسامحٍ مشرقة عن ديننا الحنيف.