كتاب

المثالية والواقعية فـي حياتنا

في تجربة الإنسان العربي، لا بل في حياة الإنسان عامة، ثنائية متناقضة، تتمثل بإشكالية المثالية مقابل الواقعية، وذلك عندما يسعى الإنسان إلى تعديل سلوكه، لكي يتماشى ويتواءم مع الصورة الذهنية المثالية أو النموذجية، وبما يزيد من قدراته في مواجهة الحياة وتحسن ظروفه فيها، وذلك باتخاذ المثل الأعلى كحقيقة اجتماعية، تنبع من هذا الواقع، وتحاول باستمرار أن تتجاوزه حتى تعلو عليه، وأن تحتل مركزيتها في حياة الإنسان، حتى أصبح من المستحيل على الإنسان أن يستغني عن تصور بعض المثل العليا، إذ أنه كائن اجتماعي، يحثه المجتمع لكي يتسامى على نفسه، ويلزمه بأن يتحلى بأخلاقه الرفيعة، ويحاصر بمثاله الذي صنعه..

وهكذا يمتلك الإنسان بوعيه حريته، وهو محاط كالسوار بالمعصم، بالأنا الاجتماعية، التي تعتبر قانونا ثابتا يقتضي اتباعه والتقيد به، وهو الأمر الذي يحافظ على الصورة المثالية بهية حيوية ثرية، وذات أهمية كبيرة في توازن حياة الإنسان.

ان هذا التزاوج الذي يعكس ترابط سلسلة طرفي الثنائية: الواقعية والمثالية، في حياة الإنسان من حيث الزمان والتاريخ والحركة، مقابل المكان، ومن حيث الجغرافيا والطبيعة كذلك، شكل نسق الممارسة الثقافية لدى الشباب العربي، وخاصة فيما يتعلق باللا تجانس الفكري واليأس الثقافي، عندما تتحكم بممارسته الثقافية ثنائيات المضامين والأهداف وتتنازع بين الخرافية والعلمانية، وبين الأصالة والمعاصرة، وبين الانغلاق والانفتاح، مع ما يصاحبها من جهل بالواقع الثقافي ومن محدودية في المعرفة، فيتردد الشاب نتيجة ذلك بين اتجاهات ومواقف متباينة وبين التماثل والاختلاف، بينما يحاول أن يتخطى الواقع ويتماشى مع الأجنبي في حضارته وثقافته، وفي الوقت ذاته يعود إلى الماضي ويتمسك بهويته، ويراوح بين التفاؤل والتشاؤم، ويشعر أحياناً بالأمل وباليأس أحياناً أخرى.

وبما أن الحياة الاجتماعية متغيرة متطورة، لا تبقى على حال، وهي على تناقض أكثر منها على تطابق، والأفراد فيها، كما الجماعات، غير متجانسين، يوزع الناس فيها على مواقع اجتماعية مختلفة الأهداف والمصالح والأداء، وفي جماعات مختلفة الاتجاهات والأعمال والمستويات، تعليميا وثقافيا واقتصاديا ومهنيا وحرفيا، مما يرسم العلاقات الاجتماعية في اتجاهين، اتجاه داخل الجماعة واتجاه خارج الجماعة، بما يجعل من شبكة الاتصالات الجماعية أكثر تشابكا وتفاعلاتها أكثر تعقيدا.

في حين تؤثر الثروة المادية والنفوذ الاجتماعي والتحصيل الدراسي، في المكانة الاجتماعية للفرد في المجتمع وعلى موقع المواطن على السلم الاجتماعي، مما يجعله غير متماثل مع موقع غيره من المواطنين، وباختلاف موقع الناس على السلم الاجتماعي ترسم علاقات المواطنين فيما بينهم على مستويات مختلفة، حسب اختلاف درجات وضعها على السلم الاجتماعي وتصبح أدوارها ليست واحدة، إذ أن توزيع المكانات الاجتماعية يحدد ويقرر حجم الاختلافات ودرجتها، فكلما كانت المسافة بعيدة بين المواقع الاجتماعية، زاد حجم ودرجة الاختلافات وعدم التكافؤ بين الناس في نفس الوقت.