إن حرية الناقد أو الكاتب أمر مهم وضروري من الناحية الموضوعية، لكنها صعبة من حيث الاحتفاظ بها وعسيرة في الدوام عليها، وهي إن شاءت الظروف السياسية أن تكون متاحة لأي من يمارس النقد، فالظروف العملية قد تجعلها قبضة على جمر يصعب القبض عليه طوال الوقت، ولا يحتمل الجميع الاستمرار في فعله في مختلف الظروف والأحوال، ليس من حيث ملاقاته للمناكفة والصعوبات والاضطهاد، ربما للاستهزاء باعتباره لا يسير في دروب المكاسب المريحة حتى ولو كان قد رهن قلمه وفكره بالمقابل ولكي يصل إلى تلك المكاسب التي يسعى إليها المعتاشون، من غير التدقيق كيف يمكن الحصول عليها.
لقد واجه لوثر وداروين ونيتشه وفرويد وغيرهم صخبا ومقاومة لأفكارهم، وهي تلك الأفكار التي بقيت حتى الآن حقائق شاهدة على ريادتهم، دون أن يعيبهم ما تم رفضه أو تصحيحه من أصول. ولقد ساعدت بعض الأفكار على تخفيف الكثير من الآلام وتصحيح الكثير من الأوهام، مما دفع البشرية إلى الأمام في روحها ومادياتها، فان فكرة بذاتها، مهما بلغت عظمتها، لا تحمل رسالة العقل النهائية،
ان الفكرة اجتهاد ينم عن التفوق، ولكنها لا تختم الفكر، ولا تحمل رسالة العقل الأخيرة، ولا تحسم الصراع والمحاورة المستمرة بين الفكر والواقع، وليس من الأفكار ما هو الخير النهائي، اذ أن أية فكرة تحاول أن تحقق للمجتمع بعض آماله، وان تخفف بعض آلامه. ومن العبث أن نجد الصيغة المثلى التي تفعل بهمومنا فعل السحر، من الخطأ أو الوهم بان خلاص الإنسانية هو في الوصول إلى صورة نتخيلها.. لم تخل في بدايتها من مبالغات لا يستهان بها حتى استقرت الخلاصة الصادقة في نهاية الأمر، فليس من الحكمة ولا من نضج الفكر أن نرفض فكرة جديدة لأنها مغالية، أو نقبلها تعصبا لها بدون الدخول في تفصيلاتها، فالفكرة الجديدة هي كالمولود تأتي إلى الحياة في أغشية ما تلبث أن تنزاح عنها.
لقد رفض ابن خلدون الركون إلى ما يفيد فيه الرواة، وهو الذي قد يكون صحيحا في الأمور الشرعية لا في الأحداث التاريخية، كما رفض الركون إلى التمحيص العقلي وحده، فلقد اعتبر أن المقياس الصحيح هو فهم طبائع المجتمع، واعتبارها المحك في الحكم على المعلومات والأفكار، قبولا أم رفضا. غير أن طه حسين قد استدرك أن ابن خلدون لم يراعِ تطبيق طريقته بدقة، فهو قد عمد إلى إدخال عوامل أخرى، مؤثرة مسبقا في تكوين شخصيته وفكره، كالدين والمصلحة الشخصية، كما ظهرت عليه النزعة الصوفية، ادخل في ضوئها تعديلات وتوسعات على مقدمته، حتى قال فيه علي وافي في تحليله إن ابن خلدون عاد لمغامراته السياسية، لكن ذلك لم يحل دون أن يتمكن ابن خلدون، وحسب تعبير علي الوردي، من أن يؤسس علما جديدا، بدل أن يؤسس إمارة جديدة...
هذا الجانب الذي امتدحه المفكرون فيما بعد، مثل توينبي، الذي نظر إلى فترة اعتزال ابن خلدون، كفرصة ذهنية، حولت السياسي إلى مفكر اجتماعي، فوفق إلى أن يكون شخصية خلاقة، لا شخصية تتنازعها ألوان من الصراع النفسي، وتمكن من أن يقدم أطروحته لإصلاح المجتمع البشري.
dfaisal77@hotmail.com