كتاب

الأردن..

الأردن وطن ارتبط لدينا, بخبز الطابون.. وشوربة العدس, بلسعة البرد في صباحات تشرين وأنت تذهب للمدرسة, بالذكريات الحميمة، للمسلسل اليومي (ام الكروم)، بوجه سوسن تفاحة وغالب الحديدي, بالزيت الذي يسخن ثم يسكب في أذنك اليمنى لمعالجة الإلتهاب, بالتصريحات التي تنطلق في تلك اللحظة من جدتك, والتي تؤكد فيها أن الدكاترة (ما بعرفوا).. وتصمت وتثق برأي جدتك.

الأردن هو الوطن الذي ارتبط, بشجرة الخوخ التي نبتت في (حوش) الجيران, ورمت سيقانها نحونا, ولم نستمع لتنبيهات الأب, وسرقنا القليل من الخوخ الذي لم ينضج على السيقان بعد, وكلهم تبرأوا من التهمة وألصقوها بي وحدي, وتعرضت لصفعة كانت مؤلمة نوعاً ما لكن لذة (الخوخة) التي أكلتها كانت أكبر..

الأردن.. هو (المزراب) الذي وقفنا تحته في ذروة المطر, وهو السور الذي مشينا عليه، وراهنوني وقتها أني سأسقط, كانت لدي مشكلة في التوازن، وكان حظي أن سقطت على كومة من القش, وضحك مني أقراني، وأعدت المحاولة مرة أخرى, وسقطت أيضاً!! كنا ننهض بالضحكات وكانت البراءة عنوانا لوجوهنا.

الأردن هو جميل عواد ومحمد أبو غريب وحسن ابراهيم.. ومالك ماضي الذي مثل ثورة في الغناء, وتحدى ألوان التلفاز بقميصه الأصفر والسشوار.. كان التلفاز الملون ثورة على الرتابة والرمادي, وأول مرة شاهدت تلفازاً ملوناً.. كان مالك ماضي هو الذي يغني, تمنيت لو أن لدي قميصا مثل قميصه.. وربطة عنق مثل ربطته.

الأردن هو رائحة الزعتر في حقائبنا المدرسية, التي ظلت حتى أن أنهينا المرحلة الإبتدائية.. وهو الأب الذي كان يغض البصر عنا ونحن نمد أيدنا إلى جيبه اليمني..

الأردن هو النشيد الذي جلست وحدي ساعات طويلة, في محاولة لحفظه.. وفعلاً حفظته عن ظهر قلب, وحين ذهبت في اليوم الثاني للمدرسة وكلي طموح بأن يضع الأستاذ على صفحة القراءة نجمة لي ويضع كلمة ممتاز، وجدت أن الأستاذ قد قرر الغياب, وفيما بعد تبين أنه مات في حادث سيارة, وفقدت النجمة للأسف وفقدت توقيعه على الكتاب.. وبقيت رهين الحزن عاما كاملا!! عرفت يومها أن الأستاذ حين يموت تسقط نجمة من الكتاب وتسقط أخرى من السماء, لهذا احترفت لملمة النجوم.. وتركت الأقمار لغيري.

الأردن هو أمك التي وضعتك في حضنها, كي تنزع من إصبعك الأيمن قطعة صغيرة من الخشب علقت في الجلد, وبعد كل حركة من الإبرة التي تحملها في يدها, تحت جلدك.. تحس بأن الألم يسري في قلبها... لا في جلدك, يا إلهي كم انتزعت من أصابعي أشواكاً وأخشاباً صغيرة.. لدرجة أني أحياناً حين أتذكر الأمر, أشعر بأن ما أكتبه بقايا الأشواك التي علقت في أصابعي من الطفولة, لا حروفا أو كلمات مصفوفة على الورق..

الأردن هو الذكريات.. هكذا أحببته وهكذا وثقته في القلب والمقال, في الدم والمسار.. فلا تغتالوا الذكريات.. لا تغتالوا الذكريات.

Abdelhadi18@yahoo.com