كتاب

الإنضباط العشائري

.... أول أشكال (الإنضباط العشائري) التي تعلمتها في طفولتي، هي عملية صب القهوة، وهي عملية معقدة جدا..تحتاج لممارسة وتدريب وإيقاع...

البدايات كانت حين يأتي أحد الضيوف، لابد أن يقوم اصغر الموجودين بصب القهوة له، وثمة توصيات تنطلق لحظة قيامك بحمل الفنجان وأولها: (الفنجان باليمين)..أن لا أعرف إذا قدمته في اليسار فهل هذا سيعني أن الطعم سيتغير؟..مشكلتي أني كنت أتوه بين اليمين واليسار، ولم يغفروا لي هذا التوهان..كل من كل من في المجلس يصرخ: (في اليمين في اليمين)...وذات مرة صرخ أحدهم بصوت مسموع: (في اليمين يا حمار)...

وأنا بطبعي..كنت أرضخ لمفاهيم الإنضباط العشائري...كان علي أيضا أن أقف وإذا هز الضيف الفنجان فهذا يكفي، وإذا لم يقم بهزه فهذا يعني أنه يريد المزيد..ومن ضمن التوصيات الخاصة بالقهوة أيضا، أن أبقى واقفا أمام الضيف حتى ينهي فنجانه..

فيما بعد فهمت أساسيات الإنضباط العشائري، وصرت كلما جاء ضيف..ومن تلقاء نفسي ودون إيعاز من أحد أحمل (الدلة)..واتقدم بخطى ثابتة نحوه وأسكب القهوة..

لكنني وقفت ذات يوم أمام مشهد صعب، حين قال لي أحدهم: (قهوتكو صايدة)...لم أعرف ماذا يقصد وقتها، ولكني فيما بعد عرفت أن هذه الجملة تدل على تغير في الطعم، فربما أثناء الغلي دخلت عشبة ما..أو نبتة ما وغيرت فيها، يومها وقفت محتارا في الإجابة...لم أعرف ماذا أرد؟..والعيون تتصيدني والكل غرق في صمت...لكني استدركت وقلت للضيف: (امسح شواربك كلهن قهوة)...كان كثيف الشوارب...لدرجة أنها برزت من وجهه..وتبدو مثل عش الحسون..

أدركت أني أخطأت حين قام أحدهم، وأخذ الفناجين مني والدلة...وتعرضت يومها لصفعة سريعة، لم تأت مباشرة على العنق...ثم هربت...يبدو أني قمت بالإخلال بأساسيات الإنضباط العشائري يومها...

فيما بعد كبرت وايقنت..معنى العشيرة..هي قلبي والتمرد وذاك الجموح، هي أن تكون على هواك وليس على هوى أحد...هي اللغة والشعر والخيل والمدى...وهي الضمير حين يغيب الضمير...

العشيرة ليست فنجان قهوة ويد يمنى أو يسرى....لهذا ما زلت للان أمارس الهروب...

Abdelhadi18@yahoo.com