د. محمد أبو حمور
ينصب الاهتمام في هذه الايام على الرعب الذي اجتاح العالم جراء انتشار فيروس كورونا المستجد، حيث صدرت العديد من التحليلات التي تناولت مختلف الاثار المتوقعة لهذه الجائحة العالمية، وهناك شبه اجماع بان الاقتصاد العالمي سيعاني العديد من الاثار السلبية على المدى القصير وربما في المستقبل ايضاً، ويشمل ذلك التدفقات المالية والاستثمارية بين دول العالم المختلفة والسياسات المالية والنقدية التي سيتم اللجوء لها لمواجهة هذا الظرف الطاريء، وبالرغم من الاوضاع المطمئنة في الاردن الا ان الحكومة اتخذت اجراءات احترازية وقائية به?ف عدم السماح بتفشي هذا الوباء، ونأمل ان تساهم هذه الاجراءات بالتوازي مع وعي المواطنين في تجنب ما تعانيه مناطق ودول اخرى جراء ذلك، ولكن ذلك كله لا يجب ان يصرف انتباهنا عن قضايا اقتصادية اساسية مثل موضوع الدين العام وخاصة الدين الخارجي، حيث من المتوقع في مثل هذه الظروف ان تنخفض أسعار الفائدة مما قد يغري بتوجه غير مدروس نحو الاقتراض الخارجي دون التنبه لما قد يترتب على ذلك من مخاطر، ويقول أيهان كوسي مدير مجموعة آفاق التنمية في البنك الدولي: «لا تقدم أسعار الفائدة العالمية المنخفضة سوى وقاية هشة من الأزمات الما?ية، ويظهر تاريخ موجات تراكم الديون فيما مضى أن هذه الموجات تنتهي في العادة نهايات غير سعيدة، ومن الضروري في ظل البيئة العالمية الهشة إدخال تحسينات على السياسات لتقليص المخاطر المرتبطة بموجة الديون «
والدين الخارجي، الذي هو عبارة عن الرصيد القائم للالتزامات المباشرة وغير المباشرة والمترتب على الحكومة تسديده بعملة غير الدينار الاردني، وأضافة لكونه يمثل نتيجة طبيعية للسياسات الاقتصادية والتنموية للدولة فهو يعكس ايضاً جزءً مهماً من الالتزامات في العلاقة مع العالم الخارجي، وتتفاوت الاثار الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للمديونية الخارجية وفقاً للعديد من المؤشرات، وبنظرة شمولية يمكن القول ان هناك بعض الجوانب الايجابية للدين الخارجي، فهو يمثل مصدر تمويل اضافي للاقتصاد الوطني واذا استغلت الديون في اقامة مشار?ع تنموية ومشاريع بنى تحتية ومنشات حيوية فسوف تساهم في تعزيز النمو وتوليد فرص عمل مما ينعكس ايجاباً على حياة المواطنين، ويساهم الدين الخارجي ايضاً في الحفاظ على احتياطيات من العملة الاجنبية مما ينعكس على الاستقرار النقدي، وباختصار فالآثار الايجابية تتحقق في حال استطاعت الحكومة ان تخصص هذه القروض وان تستخدمها بكفاءة ونزاهة في مجالات استثمارية ذات جدوى اقتصادية واجتماعية تراعي المتطلبات التنموية وقدرة الدولة على مواجهة الاعباء المترتبة عليها، ولكن اذا لم تحسن الدولة استخدام الديون الخارجية ولم تراع الحصول على?مزيج ملائم من الدين، سواءً من حيث المصادر او اجال التسديد وعملة الاقتراض، يتفق مع ظروفها الاقتصادية ومتطلباتها التنموية فسوف تواجه مصاعب جمة ونتائج كارثية بما في ذلك عدم التمكن من انتهاج سياسات اقتصادية ومالية ونقدية تخدم الاقتصاد الوطني، خاصة عندما تزداد الاعباء لتشكل مصدر عبء على الانفاق العام بحيث تتسرب الموارد المحلية للخارج، وتتأثر الاحتياطيات الاجنبية وميزان المدفوعات، وتدخل الدولة في حلقة مفرغة بحيث يصبح الدين الخارجي فخاً مؤدياً لازمات اقتصادية ومالية، وتتقلص القدرة على الاقتراض ويتراجع التصنيف الا?تماني، وقد تضطر الدولة الى القبول بشروط مجحفة ونسب فوائد عالية تفرضها الجهات الدائنة، وهناك العديد من التجارب العالمية حيث عجزت بعض الدول عن تسديد مديونيتها وعانت الكثير من المصاعب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ومن أخطر ما يترتب على السياسات المالية غير الحصيفة هو انفتاح الشهية على الديون وخاصة الخارجية منها بحيث توجه لتمويل النفقات الجارية بدل أن يتم استخدامها لإقامة مشاريع تنموية، وبكل أسف فقد وصلنا في المملكة خلال السنوات الاخيرة الى هذا الحال.
ويلاحظ المتتبع للدين الخارجي انه قد ارتفع بالقيمة المطلقة من حوالي 4.5 مليار دينار عام 2011 الى حوالي 9.4 مليار عام 2015 وصولاً الى ما يزيد عن 12.4 مليار دينار نهاية عام 2019، أما كنسبة من الناتج المحلي فقد بلغ 24.6% ثم ارتفع الى 34.9%، وصولاً الى ما يقارب 40% خلال نفس السنوات المشار اليها، ويلاحظ ايضاً ان نسبة الاحتياطيات الاجنبية الى الدين العام الخارجي انخفضت خلال نفس السنوات من حوالي 167% الى 107% وصولاً الى حوالي 70% نهاية العام الماضي، كما لا يفوتنا ايضاً ارتفاع نسبة الدين الخارجي قصير الاجل الى الاح?ياطيات من حوالي 6% الى ما يزيد عن 14% عام 2015 والى ما يزيد عن 16% نهاية العام الماضي، علماً بان المتوسط المرجح لعمر القروض الخارجية كان قد انخفض من 6.6 (شهر/سنة) عام 2011 الى 6.1 عام 2015 ثم عاد للتحسن نهاية العام الماضي ليصل الى 9.2 وهذا يشير الى ان هناك بعض الجهود الايجابية المبذولة خلال الفترة الاخيرة لمحاولة التكيف مع اعباء المديونية الخارجية، ولكن ولكي لا تكون هذه الجهود مجرد نقل العبء لاجيال المستقبل لا بد من التأكد من ان هذه القروض تستخدم لنفقات راسمالة استثمارية وليس لتمويل نفقات جارية. ومن الملاح? ايضاً تردي مؤشر نسبة الدين الخارجي الى الصادرات من السلع والخدمات والتي ارتفعت من 46% الى حوالي 94% لتصل في نهاية عام 2018 الى ما يزيد عن 113%. أما فيما يتعلق بخدمة الدين الخارجي(على الاساس النقدي ) فقد بلغت عام 2011 حوالي 0.5 مليار دينار،ارتفعت عام 2015 الى ما يقارب 1.5 مليار دينار والى أكثر من 2.1 مليار دينار نهاية 2019، وشهدت خدمة الدين الخارجي كنسبة من الناتج المحلي الاجمالي ارتفاعاً واضحاً خلال هذه السنوات، حيث ارتفعت من 2.5% الى 5.4% وصولاً الى ما يقارب 7% نهاية العام الماضي.
كما هو واضح فنحن عملياً أمام معضلة حقيقية فيما يتعلق بالدين الخارجي سواءً من حيث القيمة المطلقة أو الاعباء المترتبة على خدمته، وعلى سبيل التوضيح فقد تجاوزت خدمة الدين الخارجي خلال عام 2019 ما نسبته 27% من الانفاق الجاري، وشكلت اكثر من 29% من الايرادات المحلية، وحوالي 46% من الايرادات الضريبية، وبلغت أكثر من ضعف عجز الموازنة بعد المنح، وأكثر من 2.3 ضعف الانفاق الراسمالي، و 2.7 ضعف المنح في الموازنة، وهذه النسب تشير بوضوح الى حجم المشكلة التي تعاني منها ليس فقط المالية العامة وانما الاقتصاد الوطني بشكل عام، ?الاعباء وان كانت احصائياً ضمن المالية العامة الا ان انعكاساتها تطال مختلف القطاعات الاقتصادية والمكونات الاجتماعية، فعندما تهتم الحكومة بتسديد أعباء المديونية التي تفوق طاقة الاقتصاد الوطني تقل قدرتها على توجيه مصادر التمويل لمشاريع راسمالية أو لتحسين الخدمات الاساسية المقدمة للمواطنين، وبدلاً من تحفيز استثمارات القطاع الخاص وتوفير البيئة الملائمة لجذب استثمارات جديدة، ترهق القائمة منها بالضرائب والمتطلبات الاخرى وهذا يتبعه تراجع الادخار المحلي وتراجع الاستثمارات مما يزيد فرص الانجرار الى الازمات الاقتصادي? أوعدم القدرة على مواجهتها حال حدوثها، خاصة وان الدين الخارجي عادة ما يترافق مع شروط قد تكون قاسية في حالة الدول التي تعاني أزمات مالية واقتصادية، لذلك كثيراً ما يقال بان الديون الخارجية غالباً ما يكون خطرها أكبر على الاقتصاد، خاصة في ظل احتساب مخاطر سعر الصرف، الا انه في حالة الاردن تشكل الديون بالدولار حوالي 73% من اجمالي الديون الخارجية، وهذا الجزء لا يخضع لمخاطر تقلبات سعر الصرف نظراً لارتباط سعر صرف الدينار بالدولار.
أما فيما يتعلق بمصادر المديونية الخارجية فهي اما ان تكون قروضا ثنائية يتم الحصول عليها من الدول الشقيقة والصديقة، أو قروضا من خلال المؤسسات الدولية وصناديق الاقراض، والنمط الثالث للقروض الخارجية هو سندات اليوروبوند، حيث يتم الاقتراض عبر طرح السندات في الاسواق المالية، وعادة ما تكون نسب الفائدة والشروط المالية على القروض الثنائية وقروض المؤسسات الدولية أخف وطأة من القروض التجارية عبر السندات، وان كانت تترافق مع اشتراطات باجراء اصلاحات في مجالات مختلفة، وقد أشارت دراسة لمنتدى الاستراتيجيات الاردني صدرت قبل ح?الي عام الى ان الدين الخارجي على شكل سندات قد ازداد نسبة الى اجمالي الدين الخارجي، حيث ارتفع من حوالي 37% عام 2014 الى ما يقارب 54% عام 2018، ويعتقد ان هذه النسبة تراجعت خلال العام الماضي.
من المفهوم ان الدولة عندما تلجأ للاقتراض الخارجي انما تسعى لتحقيق منافع ومصالح معينة، خاصة عندما تكون لديها امكانية المفاضلة بين الدين الداخلي او الخارجي، وهذا الامر لا يقتصر فقط على الدول النامية وانما يشمل ايضاً الدول الصناعية والتي يلاحظ ان نسب المديونية لديها تفوق الدول الاخرى، لذلك فالسؤال قبل ان يتعلق بالدين أو مصدره لابد ان يتوجه حول المزايا المترتبة على الاستدانة وما تحققه من منافع مقارنة بالاعباء المترتبة عليه والاستخدامات التي تخصص لها هذه المبالغ، وقد نكون في الاردن غير قادرين،على الاقل في المرحلة الحالية، على تحقيق الخيارات المثلى، ولكن لا زالت لدينا الامكانية للسير نحو الخيارات الانسب التي تتفق مع منظورنا التنموي وتحقق مصلحة الاقتصاد الوطني، ولكي نكون قادرين على اتخاذ قراراتنا الاقتصادية بعيداً عن تأثير الدين?وأعبائه لا بد لنا أولاً من العمل لتخفيض هذه الاعباء الى مستويات مقبولة، ولنا عودة لمناقشة هذا الموضوع بالتفصيل.