رأينا
واجهت أرمينيا في تاريخها منعطفات حادة أدت أحياناً إلى تجريدها من استقلالها ومحاولة تصفية هويتها الوطنية، وفي مرحلة تراجع الإمبراطورية العثمانية كانت أرمينيا تواجه معاناة كبيرة ما زالت تقديراتها أمراً مختلفاً عليه، وفي الوقت نفسه كانت طموحات الاستقلال العربية تنعقد تحت ثورة كبرى بقيادة هاشمية، وعلى الرغم من العاصفة التي امتدت إلى أرجاء واسعة من العالم، كان الأردنيون في بداية تحقق حلمهم القومي والوطني يفتحون أبوابهم أمام هجرة أرمنية وجدت في الأردن ملاذاً آمناً ليبدأ فصل جديد من العلاقة التي تمتد بجذورها ضاربة في التاريخ عندما عبرت البشارة المسيحية من الأردن لتلتقي بالأرمن الذين ما لبثوا أن أسسوا أول دولة مسيحية في العالم.
هذه الأرضية من التاريخ تفسر حفاوة الاستقبال للملك عبدالله الثاني في أرمينيا، فهي زيارة لحفيد أحد الرجال الذين يراهم الأرمن بين الأنبل والأصدق في التاريخ لوقوفهم مع الشعب الأرمني بكل شجاعة في محنة تاريخية صعبة الملامح والتفاصيل، وهو أيضاً، قائد يعرفه العالم بحرصه على السعي إلى السلام والتعاون والإعلاء من قيم العمل والإيمان بقدرة الإنسان على مواجهة تحديات المستقبل، وكلها قيم تقدرها الشخصية الأرمنية وتتمثلها في حياتها وتتوارثها بين أجيالها المنتشرين في جميع أنحاء العالم.
ولكن الأمر لا يتوقف عند التاريخ وتفاصيله، فالوقت يأزف للعمل، وربما تساءل البعض ما الذي يريده الملك في أرمينيا؟ ما الذي يدفعه اليوم إلى هذه الزيارة؟ وهو الأمر الذي تأتي اجابته في خطابه في جلسة حوارية واسعة بحضور الرئيس الأرميني ونخبة من الأكاديميين والدبلوماسيين والقيادات الوطنية في أرمينيا، وبدى واضحاً من خلاله سعي الملك إلى التأكيد على المواجهة التي تخوضها الأردن ضد مخططات فرض الأمر الواقع من خلال صفقة القرن ومحاولات الافتئات على فرص تحقيق السلام العادل والشامل في المنطقة.
ربما تبدو أرمينيا للوهلة الأولى دولة صغيرة، بتعداد سكاني متواضع، ولكن هذه الصورة مضللة بعض الشيء، فالأرمن يعتبرون من أكثر الشعوب انتشاراً في جغرافيا العالم، ومن الشعوب المؤثرة في العديد من الدول وخاصة الأوروبية منها حيث يشكلون لوبياً مهماً في أروقة المنظمات الأوروبية والعالمية، والأرمن ممن يحملون ايماناً وطيداً بأهمية تحقيق السلام وارتباطه بالتنمية والرخاء، وضرورة احترام الشخصية الوطنية والقومية وعلاقتها بالتعايش والاستقرار، يشكلون حليفاً ذا وزن يعتد به في هذه المرحلة، وكل هذه العوامل تتضافر مكانتهم بين الكنائس المسيحية المحورية في العالم، ولذلك تأتي الزيارة في مكانها السليم وتوقيتها المناسب، بل والحكيم.