د. صلاح جرّار
كلّما قرأت رحلةً من كتب الرحّالة الأجانب الذين زاروا البلدان العربيّة خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وبدايات القرن العشرين تستوقفني ظاهرةٌ تجعلني أشعر بالمهانة تتمثل في تصوير العرب الذين يتعاملون مع هؤلاء الرحالة متسوّلين طالبين للرشاوى متذلّلين للأجنبيّ، بل إنّ بعضهم يعرض نفسه خادماً لذلك الأجنبي ودون أيّ مقابل. ولئن كانت هذه الصورة مبالغاً فيها بعض الشيء، إلاّ أننا لا نستطيع أن ننسى ما اعتاد عليه آباؤنا وأجدادنا رحمهم الله تعالى من وصف أيّ أَجنبيّ بالخواجة من باب التعظيم له والاعتقاد بتفوّقه على الجنس العربي، وأنّ ما يفعله ذلك الأجنبيّ هو الصواب بعينه وما يقوله هو الحقّ الذي لا خلاف عليه، وأننا المحتاجون له دائماً والمنتظرون لكرمه وعطائه مهما كثر أو قلّ، وأننا لا نستغني عن نصائحه وإرشاداته وخبرته.
ولمّا كبرنا أكثر أصبحنا نرى ظاهرة أخرى وهي احتفاء وسائل الإعلام العربية الرسميّة احتفاءً بالغاً بزيارة أي مسؤول أجنبي لأيّ بلدٍ عربي، وتصوّر لنا تلك الزيارة بوصفها فتحاً مبيناً، وإذا ما استقبل مسؤولٌ أجنبي مسؤولاً عربيّاً كان ذلك العربي في غاية الحظوة وأصبح الجميع يتبرك به ويحسده على هذا الإنجاز الذي لا يفوقه أيّ إنجاز.
ومن أعظم ما جرت به العادة أن نتغنّى ونعلن الفرح البالغ عندما يشيد مسؤولٌ أجنبيّ – مهما بلغ مستواه – بمسؤولٍ عربيّ أو بشيء يخصّ العرب، فنحمل هذه الإشادة محمل الجدّ ونردّدها في كلّ صباح ومساء وتصبح جزءاً من تاريخنا الخالد.
ومن جهة أخرى فإنّ صورة المسؤول العربيّ وهو يجلس في حضرة مسؤول أجنبيّ تدعو إلى الشفقة، وذلك عندما يظهر الأجنبي منتفخاً متعالياً واثقاً بنفسه وهو يضع رجلاً على رجلٍ، ويظهر العربي وهو متأدّب ورجلاه مستقيمتان في جلسته ويضع أحد كفّيه فوق الكفّ الأخرى وهو مبتسمٌ ومنحنٍ قليلاً إلى الأمام.
وفوق هذا وذاك إذا اختلف بلدان عربيّان أو تنازعا حول أيّ شيء يأخذ كلّ منهما في انتظار رأي هذا المسؤول الأجنبيّ أو ذاك بلهفة حول هذا النزاع فيتصرّف في نزاعه وفق ما يرضى عنه ذلك الأجنبيّ.
وإذا ما وصلنا إلى المثقفين والمتعلّمين العرب فإننا نجدهم يتباهون بالرطانة الأجنبية في كلامهم مثلما يتباهون بالإحالة في بحوثهم ودراساتهم ومقالاتهم وأطروحاتهم الفكرية إلى هذا المفكر الأجنبي وهذا الفيلسوف الغربي أو ذاك.
إنّ عقدة الشعور بالنقص أمام الأجنبي تبدأ من المسؤولين والسياسيين العرب وتمرّ من خلال العلماء والمثقفين والمفكرين وأساتذة الجامعات، فكيف لنا أن نلوم المواطن العاديّ الذي يرى في كلام الأجنبي كلاماً يكاد يكون مقدّساً وأن أي تنبؤ بأحداث المستقبل من قبل أيّ شخص أجنبي مهما كان مستواه نرى فيه أمراً حتمياً لا مردّ له، وأنّ أيّ صناعة أجنبية هي الصناعة المتميّزة والمفضّلة!!
ويبقى السؤال: كيف لنا أن نتخلّص من هذه العقدة التي حوّلت أمّتنا إلى أمّة تابعة غير واثقة بنفسها في أيّ شيء؟
إنّها عقدةٌ لا تحلّ بين عشيّةٍ وضحاها، ولا بدّ لها من عمل عربيّ جماعيّ كبير ومتواصل يشارك فيه العلماء والمثقفون ورجال الدين وعلماء التربية والاجتماع والسياسيون وعلماء الاقتصاد، وأهم شيء علماء النفس، لأنّ هذه العقدة مرضٌ نفسي معقد وراثيٌّ ومكتسبٌ في الوقت نفسه، ويحتاج إلى جلسات علاجّية متواصلة وبعيدة المدى.
[email protected]