د. هزاع عبد العزيز المجالي
على الرغم من قساوة بنود معاهدة فرساي 1919، وبعدها مؤتمر السلام في باريس 1947، على المانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية، فإن دول التحالف ما زالت تندم على ما فرضته من قيوداً بعد الحرب العالمية الثانية على تلك الدولتين. فكما يقال «رب ضارة نافعة»، فلقد استطاعت تلك الدولتين في عقود قليلة من الزمن أن تنشأ أفضل الديمقراطيات في العالم، وأن تتسيدا العالم بالصناعة والتكنولوجيا. وحديثي هنا عن اليابان بالتحديد، فيخطئ من يظن أن التكنولوجيا التي تمتلكها دول مثل: اليابان ومن بعدها دول مثل: كوريا الجنوبية وغيرها من الدول الآسيوية، هي نتاج تراكم زمني من التطور المعرفي، فتلك الدول خضعت للدمار وللإستعمار الإنجليزي، وخاضت حروباً استنزفت مواردها، وتعرضت اليابان لأقوى كارثة بشرية وبيئية في التاريخ المعاصر، عندما قُصفت بالقنبلة النووية من قبل أمريكا في الحرب العالمية الثانية. فكيف استطاعت أن تصبح بعد ذلك على رأس قائمة الهرم مصدراً ومُصدرا للصناعة والتكنولوجيا العالمية.
السر يكمن في البدايات عندما لجأت اليابان إلى الثورة العلمية والبناء على ماهو موجود بما يسمى (تقليد الصناعات)، ومن ثم الإضافة والإبتكار، فكانت تأتي بما يُصنع في الغرب من أجهزة وآلات وغيرها، وتقوم بتفكيكها ودراستها دراسة دقيقة لمعرفة وبيان حسناتها وعيوبها، ثم تقوم بتصنيع شبيه لها، ولكن بمواصفات مختلفة، بل وأفضل لتغزو بها أسواق العالم وبمواصفات وجودة عالية. وهكذا فعلت دول أخرى مثل: كوريا والصين وسنغافورة.
لقد قرأت في أحد الأبحاث العلمية عن سر تفوق المجتمع الياباني، الذي كان في يوم من الأيام من أكثر المجتمعات التقليدية المحافظة في الدين والتقاليد الاجتماعية. فكان ذلك يعود إلى رفع المكانة الدينية والاجتماعية وقدسية قيم المعرفة والعمل والإلتزام الأخلاقي فوق كل القيم الأخرى مهما كانت. وكان ذلك هو السبب نفسه لتفوق الحضارة الإسلامية في القديم، فديننا الحنيف حث على المعرفة والعمل والأخلاق (أفلا تعقلون) أو(لعلكم تعقلون)، والعقل هنا قصد به المعرفة، (وإنك لعلى خُلقٍ عظيمٍ) (وقُلٍ اعملُوا فسيرى الله عملكُم ورسوله والمؤمنون).
إنني وأثناء تدريسي في الجامعة الأردنية وغيرها من الجامعات والمعاهد العلمية، قررت الإبتعاد عن انتهاج الأسلوب التقليدي القائم على التلقين، وانتهاج أسلوب الحوار الجماعي، والمشاركة وتفعيل الرغبة بالمنافسة المعرفية بين الطلبة. فكُنت أخصص محاضرة أسبوعية للحديث حول مواضيع يختارها الطلاب مسبقاً بحرية، وكان النقاش بيننا يتم بأسلوب العصف الذهني. فكانت النتائج رائعة سواءً تعلق ذلك على مستوى اكتساب الطلاب للمعرفة والمهارات الجديدة في الحوار أو التعبير عن أرائهم الشخصية.
إن المعرفة أشبه بالشجرة، فإن لم تنتج ثمارا فلا قيمة لها سوى الجلوس تحت ظلها. فالمطلوب أن نفعل كما فعلت اليابان، فلدينا كل المقومات والقدرات البشرية والمعرفية. فالانتماء أفعال وليس أقوالاً، فمن يصنع ويبني ويتعلم ويعلم مايفيد به الناس هم خير الناس عند الله، (علما يُنتفع به)، فحب الوطن إخلاص وعطاء وليس كلاًماً ورياءً.