د. هزاع عبد العزيز المجالي
إن مصطلح (الفوضى الخلاقة) الذي ظهر في منطقتنا العربية في العقد الأخير كان يهدف إلى إحداث تغيير في النظام السياسي العربي، وهو مبدأ يستند إلى أن الفوضى تخلق نظاماً جديداً أكثر ديمقراطية. ولكن في حقيقة الأمر كانت النتائج عكسية، فالربيع العربي الوليد الشرعي لمصطلح الفوضى الخلاقة أفرز في حقيقة الأمر نزاعاتٍ وحروباً وفوضى وعبث اقتصادي وسياسي استنزفت القدرات الاقتصادية لدول المنطقة وأنهكتها، ودفع ثمنها أيضاً الدول المعتدلة ومنها الأردن التي عملت جاهدةً على استيعاب تلك التغييرات بالتعامل بعقلانية وإتزان، والدخول بحالة ما يسمى (الإسترخاء السياسي الداخلي)، في محاولة لإمتصاص تداعيات تلك المرحلة بمزيد من الإنفتاح ورفع سقف الحريات كحرية الرأي والتعبير والتظاهر وتطبيق مفهوم (الأمن الناعم)، ولأن النظام السياسي لدينا لم يكن في يوم من الأيام نظاماً تصادمياً فلقد استطعنا تجاوز واستيعاب أبعاد الأزمة السياسية في المنطقة.
لكننا ولسوء الحظ دخلنا في أزمةٍ اقتصاديةٍ فريدةٍ من نوعها رافقتها حروب ونزاعات ولجوء أعداد هائلة من اللاجئين من الدول المجاورة، فأصبح العبء كبيراً فاقم من الأزمة الاقتصادية التي كنا نعيشها أصلاً.
لقد حاول الأردن وبشتى الوسائل تجاوز الأزمة الاقتصادية، ولكن ضعف الموارد بسبب التداعيات الخارجية وفقداننا للأسواق المجاورة وانحسار الصادرات وارتفاع الكلف ناهيك عن أعباء الدين الخارجي أسهمت جميعها في استمرار الأزمة الاقتصادية التي نستبشر خيراً في تجاوزها بالإعتماد على النفس و(التشمير) عن سواعدنا كما قال جلالة الملك حفظه الله.
إنني في واقع الحال لم أشأ الحديث في الأبعاد الاقتصادية للأزمة، بل عن الجانب السياسي، ولكن الحقيقة أننا في الأردن ليس لدينا أزمة سياسية بل إنعكاساً سياسياً لأزمة اقتصادية. فالحديث عن السياسة مرتبط مباشرة بالأزمة الاقتصادية التي هي أصلاً أزمة تراكمية تحتاج إلى وقت في حين أن الناس تبحث عن الحلول السريعة وإصلاحات اقتصادية بعيداً عن جيوبها.
لقد أفرز الحراك السياسي في الأردن تصنيفات جديدة للمتعاطين بالشأن السياسي، وعلى الأغلب فإن تلك التصنيفات ليست مرتبطة بالإنتماءات الحزبية المعروفة بيميني أو يساري أو ليبرالي، فهناك تسميات أخرى أصبحت تطلق أيضاً على السياسيين لدينا فمثلاً: يطلق على رجالات الدولة من رؤساء الوزراء والوزراء الذين عملوا في العهود السابقة في العمل العام في الدولة (الحرس القديم)، ومنهم من يطلق عليهم لقب (المحافظين)، وهناك أيضاً فئةً جديدة ظهرت منذ سنوات يطلق عليهم فئة (الديجتال) الذين عاشوا وتعلموا في أميركا وأوروبا، الذين يتهمون بأنهم يفتقدون لمعرفة تفاصيل الحياة الإجتماعية والسياسية في الأردن، وتشعر عند الحديث عنهم وكأنهم أقرب (للإنسان الآلي) الذي ليس لديه إحساس، وهم يُتهمون أنهم يتعاملون مع المجتمع الذي يحيط بهم وفقاً لنظرية الربح والخسارة، وهناك من يصنفهم بأنهم الأقرب إلى الليبراليين من حيث الفكر لأنهم جميعهم يؤمنون بالحرية الاقتصادية وفقاً للمنظومة الغربية القائمة على تعظيم (الفكر الرأسمالي). أما الفئة الجديدة فهم الذين يطلق عليهم لقب (الحراكيين)، وهذه الفئة على الأغلب ليس لها أية إنتماءات سياسية حزبية أو فكرية تمثلهم، فهم خليط من الأُناس من كافة الأطياف المهنيين والمتعلمين وغير المتعلمين والمثقفين، جمعهم الهم الاقتصادي لا أكثر. والغريب أن ساحتهم ومنابرهم أصبحت مثل الجواد الذي يطمع الكثير من السياسيين والمتنفعين لركوبه لكسب الشعبية أو لنفي التهم أو لتصفية الحسابات الشخصية مع الدولة.
وفي النهاية لا بد لنا من أن نعيد حساباتنا بمزيد من الإنفتاح الفكري المنضبط المبني على أسس المشاركة والتشاور والتسامح، وأن يكون الهم الوطني فوق كل الهموم لأن الفوضى الخلاقة مقدمة لنهضة فكرية وسياسية وثقافية نُسهم بها جميعاً كما قال جلالة الملك بأن (نشمر) عن سواعدنا وأن لا ننظر إلى الوراء فالقادم أفضل.