د. أحمد يعقوب المجدوبة
نتحدث منذ زمن عن رغبتنا بأن نكون سنغافورة أو كوريا الجنوبية أو إيرلندة، أو غيرها من الدول التي أحدثت نقلة في وقت قياسي، لكننا لغاية الآن لم نتخذ أي خطوة عملية بهذا الاتجاه.
نُثير الموضوع اليوم بمناسبة فعالية عقدت في الجامعة الأردنية يوم الخميس الماضي نُظمت بالتعاون ما بين الجامعة والسفارة الكورية في عمان، تحدث فيها الخبير الكوري تشو دونغ تشو بالتفصيل عن تجربة التحول الاقتصادي والصناعي في كوريا الجنوبية التي كانت، قبل نقطة البدء، عرضة للمجاعات والأمراض والحروب والفقر الشديد.
وكان همّ الحضور، الذين امتلأت المدرجات بهم، معرفة ما الذي فعلته كوريا بالضبط كي تنهض وتصبح من أهم قصص النجاح في العالم، ومن أهم الدول تطوراً وتأثيراً في العديد من المجالات الحيوية كالصناعة والاقتصاد والتعليم وغيرها.
التفاصيل كثيرة، ولا مجال لذكرها هنا. وتعتزم الجامعة تشكيل فريق من خبرائها لدراسة ما عرض ودراسة التجربة الكورية عموماً بتعمق من أجل إعداد «ورقة تصور»لما يمكن فعله، علّها تكون نقطة البدء.
بيد أن المنطلق العام للمحاضرة تمثل في أن كوريا، ببساطة شديدة، وضعت مجموعة أهداف وكرست كامل جهودها لتحقيقها، منها على سبيل المثال التوجه للتصنيع كخيار استراتيجي رئيسي، والتركيز على التصدير بدلاً من الاستهلاك.
مجموعة مبادئ أساسية كهذه شكلت نقطة البدء، ثم خطط عمل مفصلة لكلّ هدف، وإرادة قوية لتحقيقها من قبل المعنيين، دون تردد أو تلكؤ.
والحقيقة أنني اطلعت عن كثب قبل مدة على عملية تطوير التعليم العالي في أوروبا، والتي تسمى»عملية بولونيا» فوجدت المحرّك هو الأمر ذاته: الاتفاق على مجموعة أهداف مصاغة بدقة وتتسم بالسهل الممتنع، ثم خطط عمل تفصيلية، وتركيز شديد ومثابرة في التطبيق.
وقد بدأت تلك العملية عام 1999 عندما اجتمع وزراء التعليم العالي في أوروبا وأصدروا ما يعرف بإعلان بولونيا، والذي يشتمل على الأهداف المشار إليها، والتي بدأوا بتطبيقها على الفور.
أخمن، لا بل أجزم، أن المطلوب منا هو فعل شيء مشابه، حتى تبدأ انطلاقتنا المنتظرة.
ثلاثة أمور لا بد من التأكيد عليها في هذا السياق.
أولاً، أحد أهم أبعاد مأزقنا أننا غارقون في تفاصيل كثيرة تمنعنا من رؤية الصورة الكلية والعمل عليها بمجموع مكوناتها. وقد يكون لنا مبرراتنا، فهنالك العديد من المشاكل الأساسية، المتصلة والمنفصلة، التي لا بد من إيجاد حلول فورية لها.
بيد أننا يمكن، لا بل يتوجب، أن نعمل بالتوازي وننظر من منظارين في آن واحد: أي أن نقوم بالعناية بالتحديات الملّحة التي تواجهنا، وأن نكرس جهداً مركزاً للصورة الكلية وللتخطيط المستقبلي، حتى لا نكون رهينة للتفاصيل التي تفقدنا الصورة الكلية والوجهة المحددة.
المطلوب منّا – ببساطة – إذاً أن نتعلم الدروس من التجارب التي طبقها غيرنا بنجاح، ونحدد مبادئنا بدقة، ثم خطط تنفيذها. وقد كانت لنا في السبعينيات والثمانينيات تجارب قريبة من المطلوب تمثلت في خطط التنمية الثلاثية والخمسية، وعندنا الكثير من الاستراتيجيات والأجندات الوطنية التي يمكن أن نستقي منها أهدافنا العامة التي تكون نقطة الانطلاق.
ثانياً، إن وضعنا اليوم أفضل بكثير من وضع كوريا الجنوبية عندما بدأت. صحيح أن هنالك الكثير من المشاكل والتحديات، لكن بالمقابل هنالك الكثير من الإنجازات التي يمكن أن نبني عليها والكثير من الخبرات والكفاءات والعديد من الخبراء.
ثالثاُ، ليس الهدف من هذه المقالة اقتراح الحالة الكورية كمثال نحذو حذوه أو نطبقه. فقد لا يكون من الحكمة محاكاة نموذج بعينه، مع أن الكثير مما قام به اليابانيون والكوريون والصينيون بني على فكرة المحاكاة لنماذج بعينها، وهي النماذج الأوروبية والأميركية.
المطلوب أن ندرس العديد من النماذج بعناية ونأخذ أو نطور النموذج الذي يناسبنا.
وبعد، فتحدثنا ونتحدث طويلاً عن أننا نريد أن نكون مثل الدولة الفلانية أو العلانية، وأننا نريد أن نُحدث النقلة التي أحدثها غيرنا. وهذا أمر جيد. لكن علينا أن نبدأ، فلقد حلمنا طويلاً، وتمنينا كثيراً، وآن الأوان لفعل جادّ بهذا الاتجاه.
[email protected]