د. زيد حمزة
في سرد تاريخي ممتع وموجع معاً مضى بنا الدكتور محمود يزبك الاستاذ في جامعة حيفا يصف الرحلة المضنية التي خاضها أهله وذووه ومواطنوه الفلسطينيون الذين بقوا في دورهم واراضيهم بعد ان داهمهم العدو الصهيوني عام 1948 واحتل بلادهم وأقام دولة اسرائيل عليها.. وبكل الصدق الذي تجلى في نبرة صوته رفض المحاضر أن يفاخر بوصف صمودهم بالبطولي فالذين فروا من القتل والرعب وأضحوا لاجئين في كل ارض لم يكونوا جبناء.. أما الذين مكثوا في بيوتهم بلا حول ولا قوة في حيفا ويافا وعكا والناصرة وفي بلدات وقرى الجليل فقد عانوا مذلة ((الغيتو)) الذي حُشروا فيه مع القمع والاضطهاد. وبعد ذلك فقط بدأ الصمود الحقيقي لفلسطينيي الــ 48 الذين أصبحوا بين عشية وضحاها منبوذين في اسرائيل كمواطنين من الدرجة الثانية وقد انقطع اتصالهم باقاربهم وكل ما هو عربي وحُرموا على مدى تسعة عشر عاماً من اي تعليم وطني والمفارقة الساخرة ان اول انفراج ثقافي أتيح لهم وساعدهم على الصمود حدث بعد هزيمة العرب(!) عام 1967 اذ اندفعوا للالتقاء باهلهم في ((الضفة الغربية)) وغزة وبالعرب في مختلف دولهم خصوصاً في الاردن وأقبلوا بنهم وشوق على الصحف والكتب العربية التي بدأت تتدفق على اسواق حيفا ويافا والناصرة بعد طول عزلة وبعد أن كانت كتب المناهج الدراسية – ولو بالعربية – هي ما تقرره لهم وزارة المعارف الاسرائيلية فلم يتخرج من جامعات الاحتلال حتى عام 1967 سوى اثنين وخمسين فلسطينياً وأصبح العدد الآن أكثر من ستين ألفاً ! أما الانفراج الثاني الذي نعموا به فكان معنوياً بالغ الأهمية وقد حدث بعد الانتصار في معركة الكرامة عام 1968 واعتبروه رغم اختلاف القوى المشاركة انتصاراً على الجيش الذي أذلهم في العشرين عاماً المنصرمة، واردف المحاضر قائلاً أن الشحنة المعنوية التالية قد جاءت بعد حرب اكتوبر 1974 دونما ادنى اهتمام بمواقف السادات فتحطيم اسطورة الجيش الاسرائيلي الذي لا يقهر أفرحهم حتى رقصوا في الشوارع احتفالاً بانتصار الجيش المصري وبدا أن شجاعتهم ارتدت لهم بعد اليأس فمضوا غير هيابين يدافعون عن حقوقهم التعليمية ومطالبهم البلدية والانتخابية واصبحوا حقاً شوكة في خاصرة اسرائيل ولما هبّت الانتفاضة الاولى عام 1987 شحنتهم بمزيد من الحماس للنهوض في وجه الاحتلال وطغيانه وقوانينه التمييزية العنصرية الجائرة، ومع ان أوسلو قد احبطتهم لكن لم يقنطوا وحين قال لهم ياسر عرفات (( روحوا دبّروا حالكم )) لم ينكفئوا بل بدأوا مرحلة جديدة من التنظيم العمالي والحزبي في انتخابات البلديات والكنيست ومنظمات المجتمع المدني ومن بينها ((عدالة)) التي يرأسها المحاضر الكريم وواجهوا يوم الارض المجيد وتوالت الانعطافات بعد ذلك كثيرة وحادة ولعل آخرها الآن قانون يهودية الدولة الفلسطينية الذي كشف نهائياً للعالم بأسره عن الوجه البشع لنظام التمييز العنصري (الابارتهايد) الذي تمارسه اسرائيل ضد الشعب الفلسطيني، فعزز بذلك نضالهم العادل خصوصاً على الساحة الدولية.
وبعد.. مازال فلسطينيو ال 48 يواصلون مسيرتهم رغم شراسة العدو وظلم بعض ذوي القربى الذين يعاملونهم وكأنهم غرباء حتى لا أقول عملاء لمجرد انهم يحملون جواز سفر الدولة المغتصبة، فأي ظلم أفدح من ذلك وأي انكار لصمودهم في اراضيهم اشد إيلاما! حتى ان هذه المحاضرة التي استمعنا لها الاسبوع الماضي في منتدى الفكر الديمقراطي الاردني (برئاسة الاستاذ عبدالله حمودة) وحضرها جمهور اكبر من كل التوقعات حجماً ونوعاً كانت في الاصل قد دعت لها رابطة الكتاب الاردنيين لكنها ألغتها فجأة بحجة ((مقاومة التطبيع)) !