محمد خروب
مُفاجِئة تصريحات رئيس الدبلوماسية الأميركية ريكس تيلرسون لقناةCBS أنه «يترقّب أن يستمع من الكوريين الشماليين مدى استعدادهم للحوار. مُضيفاً..انه «عندما ستجهز بيونغ يانغ لذلك..ستُبلغنا».
اللهجة الليّنِة التي استخدمها تيلرسون «قد» تعكس ضمن امور اخرى, تخلّ اميركي «مؤقت» عن لغة التهديدات والغطرسة التي دأبت توجيهها تِجاه مَن قالت واشنطن في «استراتيجية الأمن القومي الأميركي للعام 2017,انها أنظمة دكتاتورية مارقة مثل كوريا الشمالية وايران,التي تُزعزِع الإستقرار الإقليمي وتُهدّد اميركا وحلفاءها.
فهل نجاح بيونغ يانغ في «تبريد»الأزمة واستعدادها لفتح باب الحوار مع جارتها الجنوبية هو الذي أسهم في كبح الإندفاعة العدوانية الأميركية؟
ربما...ما يستدعي من بعض العرب التأمّل في النجاح الذي سجّلته دبلوماسية الدولة الاكثر تعرُّضاً(مع كوبا) لعقوبات وحصار وشيطنة لقيادتها من قِبَل واشنطن في العالم وهي كوريا الشمالية, وكيف استطاعت الاخيرة استغلال فرصة الالعاب الاولمبية الشتوية (تنتهي في25 شباط الجاري), فرض العزلة على نائب ترمب.. مايك بنس، الذي لم يتوقف عن إصدار تصريحات عدوانية تفوح منها رائحة الغطرسة, ضد بلد ذنبه الوحيد انه يرفض الخضوع للإملاءات الاميركية, ولا يريد قادته ان ينتهوا الى المصير الذي انتهى اليه بعض الزعماء العرب, الذين صدّقوا الوعود الاميركية واطمأنوا الى اكذوبة الصداقة مع واشنطن, فانتهى بعضهم قتلا فيما غيرهم تركته «الصديقة» الإمبريالية يواجِه مصيره, بعد ان اخلص لها كثيرا وطويلا, فاختارت زعيمة «العالم الحر» المُغرَمة بـ»صداقة» الديكتاتوريين والفاسدين ومن أتت بهم على ظهور الدبابات, التخلِّي عنهم.
ما علينا..
المسألة الكورية ضمن امور اخرى وفي بعض جوانبها,تتمايز عن «مسألة» العلاقات العربية الاميركية, التي «لم» تكن منذ قيام واشنطن بوراثة الامبراطوريتين الاستعماريتين القديمتين البريطانية والفرنسية,وملء الفراغ الذي نتج عن انهيارهما.... علاقات نِدِيّة, بل تبعِيّة وزبائِنِية, منها الى اي شيء آخر. استثمرت فيها واشنطن الكثير, من اجل ضمان تبعية معظم العرب لها, وبخاصة في عدائها الايديولوجي للاتحاد السوفياتي ومنظومة الدول الاشتراكية واستعار الحرب الباردة, التي انتهت لصالحها. لكنه انتصار مؤقت لم يستمر طويلا, فوجدت نفسها بعد عقد ونيِّف من الهيمنة المنفردة على العالم, في عزلة وتراجع, يصعب على احد في الولايات المتحدة او خارجها, الزعم بأن اميركا ما بعد انتهاء الحرب الباردة, هي نفسها التي تورّطت في حربي افغانستان والعراق, وبدأ دورها وحضورها العالميين في انحسار وضمور, في الوقت الذي تبرز فيه وتصعَد, دول عديدة في مقدمتها روسيا التي ظنّ الامبرياليون ان تقسيمها بات في متناول اليد, وان «تحويلها» الى دولة من دول العالم الثالث, ليست سوى مسألة وقت. كذلك هي حال الصين الصاعدة سلمياً وبثقة الى مقعد القيادة, كشريك له وزن ودور ومكانة في القرار الدولي. وغيرهما دول ما تزال الفرصة سانحة امامها ليس فقط لتحدي هيمنة واشنطن بل وايضا للمشاركة في صنع القرار الدولي.
الكوريون الشماليون اداروا بحكمة وبُعْد نظر, دبلوماسيتهم «الاولمبية» على ملاعب جارتهم الجنوبية، فسرقوا الاضواء وحصدوا احترام جهات عديدة في العالم, راقبت «المبادرَة» الدبلوماسية التي خاضوها ضد صلف نائب الرئيس الاميركي التبشيري المتزمت مايك بنس، ونجح الشماليون في استقطاب وسائل الإعلام التي رصدت الثقة والبساطة التي قادت بها شقيقة الرئيس الشمالي كيم جونغ اون الصُغرى.. كيم يو – جونغ, وفد بلادها, وكيف وضعَت بنس في الزاوية, عندما لم يقف احتراما للوفد الكوري الشمالي والجنوبي «الموحَّد», الذي خاض المباريات الاولمبية، ما اسهم في ارتفاع منسوب الانتقادات التي وجِّهَت اليه. وهي انتقادات ذات بعد سياسي, بالاضافة الى ابعادها الأخلاقية والدبلوماسية والبروتوكولية.
بنس الذي ذهب الى حفل افتتاح الأولمبياد الشتوي, واصَل هجماته الاعلامية على كوريا الشمالية, لكنه اضطر امام الدبلوماسية الهادئة والمتّزِنة التي تمسّك بها حليفه الجنوبي مون جاي – إن, الى ابداء الاستعداد لـ»لحوار» مع بيونغ يانغ حول برنامجها النووي والباليستي، فيما سجّلت الاخيرة هدفا ثمينا في مرمى «الحليفين» عندما وجّهَت دعوة للرئيس الكوري الجنوبي لزيارة العاصمة الكورية الشمالية, وهو الذي كان أبدى استعداده لزيارة الشطر الشمالي, عندما احتدم الجدل وحملة الإهانات المتبادَلة بين ترمب وكيم جونغ اون, حيث لم يتوقَّف ساكن البيت الأبيض عن خلع الاوصاف المُهينة بحق الرئيس الكوري الشمالي, كان آخرها عندما وصفه بـ»اللئيم» بعد ان كان نعتَه بـ»رجل الصواريخ الصغير»(..).
اذا ما زار الرئيس الجنوبي.. بيونغ يانغ, فان خيار الحرب الذي تُلوّح به واشنطن سيصل الى طريق مسدود (وإن مُؤقتاً) ومعلوم ان الرئيس الجنوبي مون جاي – ان.. هو اكثر اعتدالا من أسلافه, بل ليس ثمة مبالغة في القول انه شخصياً من يَحول (حتى الان) دون إقدام ترمب على شن حرب نووية تكتيكية على الشمال, وسبق ان صرّح اكثر من مرة: بان حرباً لن تنشب, الا بِموافقة سيؤول. فضلا عن تفضيله خيار الحوار مع الشمال عندما نادى مؤخراً: بضرورة الإنخراط بشكل اكبر مع كوريا الشمالية, لجرّها الى طاولة المفاوضات.
ليس صدفة او كرما اميركيا قول بنس لصحيفة واشنطن بوست: «ان واشنطن ستواصِل اقصى حملة ضغط على بيونغ يانغ، لكنها ستكون منفتحة على اي محادثات مُحتمَلة في الوقت نفسه».. مستطرِداً: «اذا أرادوا الحوار.. فسوف نتحاور».
أليس ثمة فروق هائلة بين لغة الاملاءات الاميركية المفروضة على بعض العرب, فيما واشنطن تتردّد حدود الارتباك والتلعثم, كلما واجهت مَن يتمسَّك بكرامته وسيادته الوطنية واستقلال بلاده و..قرارِه؟.
[email protected]