هي ليست أحجية !

د. زيد حمزة انها تملك المال والنفوذ وتدير الحكومات من خلف الستار وامامه، وتملك الاساطيل والجيوش واجهزة الاستخبارات بادواتها واساليبها وأهمها اختراعاتها الالكترونية الذكية المتطورة، وتهيمن على وسائل الاعلام المحلية والعالمية بالف طريقة وطريقة، فتتسلل بذلك الى عقول الناس وأفئدتهم لا عيونهم وآذانهم فحسب وتصل الى كل مكان على سطح الكرة الارضية، وهي التي تحمي ارباح الاغنياء وتمدّ يدها الى القروش القليلة في جيوب الفقراء، إنها هي نفسها التي توفر أعلى مستويات العناية الطبية للذين يملكون ولا رأفة عندها بالذين لا يملكون إذ لا تتيحها للمرضى المساكين من ابناء الطبقات الدنيا، وهي التي تغربل البشر وتفرزهم بين اذكياء واغبياء لكي يعمل الجميع في النهاية حسب طلبها وتحت إمرتها، وهي التي تفتعل المبررات والاسباب والذرائع كي تعتدي بموجبها على شعوب باكملها، فالأسلحة الضخمة جاهزة وادوات القمع المحلية رهن اشارتها، والاجواء مفتوحة لطائراتها والنفقات الباهظة متوفرة سهلة بين يديها تحصل عليها حتى من المعتدى عليهم ! سماها البعض مؤامرة عالمية كأن منظمة سرية تخطط لها وتقودها من مكانها البعيد عن العيون أو مخبئها في قبو خفي وقيل في معرض الحدس انها الماسونية او الصهيونية العالمية او الامبريالية أو الولايات المتحدة نفسها بالتحالف مع اسرائيل أو المافيات أو هي روتشيلد وبنوكه أو جماعة الليبراليين الجدد.. والحقيقة أنها ليست هذه ولا تلك ولا أولئك، فقد عرفناها منذ عرفنا أن الاقتصاد هو المحرك الحقيقي للتاريخ وان ادوات الانتاج هي اساس هذا المحرك والذين يملكون الادوات هم وراء كل ذلك لأنهم يملكون معها حرية التحرك والتوسع بها كيفما يشاءون لكي ينتجوا اكثر، كما يملكون حرية العبور بها كل الحدود ليبيعوا اكثر ويربحوا اكثر حتى لو داسوا في طريقهم على البشر وعلى المبادئ والقيم، ويصل بهم حرصهم على هذا النوع من الحرية (!) حد تقديسها وإرغام الآخرين كل الآخرين ان ينصاعوا لها وأن يقدسوها ايضاً، إنها ببساطة شديدة ((مبادئ الاقتصاد الحر)) فهي الدين المتطرف الذي لاذ به عرابو نظام السوق المنفلت منذ ضيّقت عليهم الكينيزية بالافكار الرأسمالية الملطّفة المعتدلة في أوروبا بين الحربين العالميتين في القرن الماضي فأسرعوا يتبنّون الايديولوجية الجديدة التي قررتها لهم كلية الاقتصاد في جامعة شيكاغو وكان منظّرها الاول ميلتون فريدمان في الثلث الاخير من القرن الماضي، واقتحموا من اجل تطبيق تلك المبادئ دولاً باكملها وقاموا بانقلابات عسكرية دموية سحقت كل من وقف في وجهها وفرضت نظماً مالية جديدة قضت على مكتسبات للفقراء ناضلوا من اجلها طوال عمرهم وقمعت عشرات الآلاف ممن قاوموها أو عارضوها، وألغت التعليم المجاني والرعاية الصحية العامة المدعومة، وقد حمل لواء تلك المبادئ من سموا أنفسهم المحافظين الجدد اي الرهط الذي جدد القسم على المحافظة على حرية السوق في أن تجتاز سلعُه وبضائعُه كل الحدود وتتخطّى كل القيود وقاد حملتهم في البدء أثنان من كبار الغرب هما رئيس الولايات المتحدة رونالد ريغان ورئيسة وزراء بريطانيا مارغريت تاتشر فبشّرا بالخصخصة كطريق أوحد للازدهار الاقتصادي في بلديهما حتى لو لم يتحقق إلا بامتصاص دماء شعوب ضعيفة عديدة ، ولو لم يقدم للطبقات المتوسطة عندهما سوى الفتات !

في الشهر الماضي حدثتنا جاياتي غوش Jayati Ghosh استاذة الاقتصاد في جامعة جواهر لال نهرو بالهند على موقع The Real News فقالت إن نظام السوق في العصر الاميركي هو ما كنا نسميه ((الاستعمار)) لأن الاحتلال العسكري الذي سيطرتْ به بعض الدول الاوروبية على بلاد باسرها في آسيا وأفريقيا في القرون الثلاثة الماضية لم يعد ضروريا، فذلك ما يمكن تحقيقه الآن بوسائل عديدة تقوم بها حكومات تسيّرها الشركات الكبرى (الكوربوريتس) متعددة الجنسيات عابرة القارات كي تهيمن بها على مقدرات شعوب تستضعفها وتستلب اراداتها الوطنية وتنهب ثرواتها في جشع لا حدود له!

وبعد..لا يظنّ أحد ممن لا يحبون سماع او قراءة مثل هذا الكلام لشدة وطأته على ضمائرهم، أني كتبت ما كتبت تحت تأثير كابوس سياسي عابر دهمني في نومي فخنق انفاسي حتى طفقت اهرف بما لا يراه سواي أو غير مسموح لأحد أن يصفه حتى لو رآه.. بل على العكس ألمح في مواجهة ذلك القبح كله آمالاً جديدة تسطع إذ تتحرك في انحاء العالم قوى المقاومة بوسائلها المتطورة لتناضل ضد الاحتلال الجديد المتمثل في ((مبادئ اقتصاد السوق))..