د. زيد حمزة
بدأنا نسمع عنه في الاردن حين بدأ وعينا السياسي يتفتح على احداث منطقتنا العربية بعد الحرب العالمية الثانية واشتد اهتمامنا به وبحركته الديمقراطية في العراق حين انهارت أمامنا اسطورة القوة التي توهمنا أن دولنا العربية تملكها وإذا بها في حرب 1948 تتهاوى أمام العصابات (!) الصهيونية وتضيع فلسطين وتقوم دولة اسرائيل (المزعومة)، فأخذنا نتلمس طريقنا السياسي الذي أصر كامل الجادرجي على ألا بديل فيه عن الديمقراطية دليلا وهادياً وسط اصطخاب الساحة في العراق باحزاب تقليدية مصطنعة وبزعماء سياسيين لطختهم معاهدة بورتسموث كصالح جبر، وآخرين قاموا بالترويج لحلف بغداد (البريطاني) كنوري السعيد، أو باحزاب عقائدية ما لبث القديم المضطهَد منها كالشيوعي والجديد الممتلئ حماساً كالبعث أن اصطرعا بلا هوادة حد سفك الدماء في الشوارع، ومضَيْنا نقرأ في نفس ذلك الزمان بلهفة بالغة صحافة عربية تمور بالتغيرات الفكرية الناشئة وتضج بالحوارات الثورية المستجدة، وكانت مكتبات الاسواق عندنا في الاردن لا تعرف سوى الصحف المصرية وبعض اللبنانية وقليلا من السورية، أما العراقية فكانت على ما أذكر شبه غائبة حتى فوجئنا بصحيفة عراقية واحدة تصلنا بصعوبة وكأنها بضاعة مهربة هي ( الاهالي) الناطقة باسم الحزب الوطني الديمقراطي وحينها عرفنا جيداً اسم كامل الجادرجي زعيم الحزب وقرأنا مقالاته الجريئة المنادية بالديمقراطية كأساس لا يتزعزع من اجل اي نمو سياسي حقيقي يمكن أن يؤدي الى التطور الاجتماعي والاقتصادي في اي بلد..
بدأ كامل الجادرجي حياته السياسية عام 1927 نائبا في المجلس النيابي العراقي ممثلا لحزب الشعب وفي عام 1936 أصبح وزيراً في حكومة بكر صدقي قائد أول انقلاب عسكري في التاريخ العربي المعاصر، لكنه لم يلبث ان استقال منها احتجاجا على (تسلط) القائد نفسه، وبعدها راح يتوجه نحو الديمقراطية نتيجة دراسةٍ واسعة لتجارب الشعوب ونضالها وما ان انتهت الحرب العالمية الثانية حتى أسس حزبه (الوطني الديمقراطي) الاشتراكي النزعة والمؤيد لمطالب العمال، كما في اضرابهم في معامل تكرير النفط في كركوك عام 1946 وانتفاضة كانون الثاني 1948 وتشرين الثاني 1952 وبدعم عمال نفط البصرة عام 1953، وقد انتقد بشدة اتفاقية المساعدات الاميركية (النقطة الرابعة) عام 1954 وعُرف عنه موقفه المعارض للانضمام للحلف التركي الباكستاني ثم حلف بغداد في النصف الاول من خمسينات القرن الماضي وقد قاد الجبهة الوطنية العراقية المشكلة من احزاب المعارضة اثناء العهد الملكي وفي سبيل ذلك طاله الاضطهاد والاعتقال..
وقد ذكرت التقارير البريطانية منذ 1936 انه شاب ذو ميول وطنية متطرفة وانه يحمل افكاراً ليبرالية في الاصلاح الاجتماعي، اما الوثائق الاميركية فذكرت فيما بعد انه كان متحرراً في آرائه صادقاً في عمله مستقلا في مواقفه، له شخصية محببة مع الاجانب كما مع اصدقائه وعائلته، ولاحقاً وصفته المصادر السوفيتية بانه زعيم سياسي واجتماعي مؤمن بالديمقراطية، برجوازي في انتمائه الطبقي وفي نفس الوقت مؤيد للعمال، وتكاد باقي المصادر التاريخية أن تُجمع على انه شخصية وطنية تبنّى الديمقراطية بوصفها عقيدة ومبدأً للحياة وان مشاكل العراق لا يمكن ان تحل بدونها وهي تعني التعددية الحزبية والانتخابات الحرة النزيهة.
كتب عنه الاديب المصري المحافظ احمد حسن الزيات محرر مجلة الرسالة إنه متوقد الذكاء متمرد الطباع دائم الحركة صلب الرأي يدين بالديمقراطية ويميل الى الاشتراكية ويرفرف بجناحية على الفلاح والعامل والمتعطل، وقال عنه الكاتب المصري اليساري احمد بهاء الدين بمجلة صباح الخير بعد زيارة صحفية قصيرة لبغداد في عام 1956 أن من أبرز صفات كامل الجادرجي ثقته المطلقة بالمستقبل، وأنه متأثر بكتابات طه حسين وسلامة موسى ومعجب بشخصية جواهر لال نهرو اذ يعتبره نموذجاً يحتذى في السياسة الدولية، وعن مكتبته أنها من اكبر المكتبات الخاصة في بغداد وكانت تستقبل زعماء المعارضة واساتذة الجامعات والمحامين والادباء الذين تحرمهم الرقابة من الكتب التي كانت تصادرها بكثرة.
وبعد.. صحيح ان الحزب الوطني الديمقراطي الذي أسسه عام 1946 قد تجمد نشاطه في عام 1961 لكن ارث كامل الجادرجي النضالي استمر يجري في عروق المؤمنين بفكره من الاجيال اللاحقة حتى بعد دخول العراق في الليل الطويل الذي توقعوا أن يفضي بالعراق في النهاية الى الكارثة متمثلة في الاحتلال الامريكي الدموي المدمر وما تبعه من اقتتال وعنف وارهاب وفساد يمزق الآن نسيج المجتمع، والحديث اليوم عن كامل الجادرجي لم يكن بحاجة لمناسبة معينة تذكرنا به فلقد تعرّفنا على المزيد من تاريخه ومواقفه من خلال عدد كبير من السياسيين والاكاديميين العراقيين السابقين الذين وفدوا الى الاردن في السنوات الاخيرة حاملين معهم احزانهم مجبولة بذكريات كفاحهم الوطني الذي ظلت جذوته مشتعلة في صدورهم.. منذ خمسينات وستينات القرن الماضي .