الاب رفعت بدر
استقبلهم الأردن بذراعين واسعتين، قبل عامين ونصف، وها هم يحزمون حقائبهم للسفر إلى بلدان بعيدة، بعدما حصلوا على «فيزا» للخروج ليس من الأردن فحسب، بل من الشرق الأوسط كله. إنهم مسيحيو الموصل الذين كان لوجودهم بيننا أكثر من درس وعبرة، وسط سيل من الدموع والعبرات.
جاءوا إلينا مهجرين، بسبب العنف السياسي، ولكن بالأخص العنف الديني، أي التهجير، لا بل الاضطهاد. وكان صعباً على المرء أن يصدق أن القرن الحادي والعشرين سوف يشهد ما شهدته القرون الأولى من اضطهاد لأتباع السيد المسيح، بطريقة وحشية. فقد اقتلعوا من جذورهم التي تمتد إلى مئات السنوات في سهل نينوى: أي في الموصل والمدن والقرى المجاورة.
وحين يغادر أهل الموصل، أو عدد من عائلاتهم الأردن ، فماذا ستترك لديهم اقامتهم في مملكتنا الهاشمية من اثر في نفوسهم؟ وماذا سيتركون لنا من أثر وعبرة؟
أولاً هنالك شعور بالامتنان الكبير للدولة، بل للأسرة الأردنية الواحدة، قيادة وشعباً. فهذه الشريحة من «اللاجئين» قد حظيت على مدار السنتين باهتمام شخصي من جلالة الملك الذي تحدَّث عنهم في كل المحافل الدولية، بصفتهم جزءا لا يتجزأ من مسيحيي الشرق الذين يشكلون واحداً من أهم اهتمامات سيد البلاد، وجلالته قد بيّن أكثر من مرة ان الحفاظ على الهوية العربية المسيحية «ليس ترفاً بل واجب» (3/ 9/ 2013).
ولقد قدم جلالته لمراكز الايواء الأسرّة التي نامت عليها عيون مسيحيي الموصل الدامعة والمتألمة، وكانوا يفاخرون دائماً بقولهم: «اننا ننام على أسرّة ملوكية». وفي لقاء جلالته بالأسرة الأردنية في الكرك (في عيد الميلاد 2014) ، ضمت الوفود المشاركة عدداً من مسيحيي الموصل الذي صافحوا جلالته وشكروه وجهاً لوجه، على وقفته التي سيذكرها التاريخ.
أما العبرة الثانية، فهي الصورة المنطبعة عن الاسلام. فقد بات جلياً أن دولة أطلقت على نفسها لقب اسلامية، هي التي هجرت العائلات من بيوتها، فكان ينبغي أن تعاد الأمور إلى نصابها، وأن تعرف الحقيقة إلى صدقها. فالتهجير تم على أيدي «خوارج عن الاسلام»، أما الاسلام الحقيقي فقد تم التعامل معه في الأردن، وكم شهدت مراكز الايواء في مدن الأردن وقراه زيارات وفود مسلمة جاءت للتضامن وتقديم يد العون والمساعدة، فينطلق أهل الموصل اليوم مدركين أن الدين سماحة ومحبة، وما كان أبداً قتلاً وتنكيلاً.
أما جمعية الكاريتاس الخيرية الأردنية، وهي التي تحتفل هذا العام بخمسين سنة على تأسيسها، فقد قامت بأعمال بطولية ليس فقط بتأمين القوت اليومي، وإنما بإعادة الأمل والكرامة الإنسانية والشعور بالطمأنينة. فهي التي نظمت قوائم القادمين، وأشرفت على توزيعهم على مراكز الايواء التي حضّرتها هي جيداً، ثم تولت على الاشراف على انتقال العائلات إلى بيوت مستأجرة، وقدمت رعاية صحية شاملة، وأشرفت على التعليم بالتعاون مع مجلس الأساقفة الايطالي، وافتتحت حدائق الرحمة، لكي يمضي العراقيون فيها اوقاتهم بأعمال مفيدة بحسب خبراتهم ومواهبهم. وتعاونت مع السفارة الاماراتية التي قدمت المساعدة لعدد من العائلات واستأجرت لهم بيوتاً لمدة عامين.
أما العبرة الأكبر التي تعلمناها من أهل الموصل، فهي أن هنالك شؤونا في الحياة لا تباع ولا تشترى: ومنها الكرامة ومنها الايمان، ومنها عزة النفس ومنها التضامن وعدد من القيم الروحية والانسانية العالية... وأهمها المحبة.
إلى اللقاء... يا أهل الموصل الأعزاء.