محمد خروب
أثقلته الهموم وأرَّقه الحنين, فغادر دنيانا مع اطلالة اليوم الأول من العام الجديد, الذي لا يستطيع أحد التكهن بما يحمله لنا؟ وكيف ستواجه أمتنا الجريحة, استحقاقاته وارتدادات ازماته المفتوحة؟ وربما تستعصي عليه الأسئلة الكبيرة التي ما تزال بلا أجوبة, والتي تكاد تتلخص في سؤال بسيط: ما الذي حدث لهذه الأمة التي اختطفها بعض حُكامها؟ وولغ في دمائها.. أعداؤها؟ وما السبيل للخروج من راهن بائس؟ بِتنا فيه نُحالف العدو, ونخاصم الشقيق ونستعدي الذي يَخْطُبُ وُدَنا, ونُهدِر أموالنا على حروب فاشلة ومعارك دونكيشتوتية، ثبت خلالها اننا نسينا أبسط قواعد الحروب «ترسانات» وصِفَتْ للشعوب ذات يوم, انها حديثة بل هي الاكثر تقدماً والأغلى سعراً، والاكثر كلفة في الصيانة والتدريب والمحاكاة.. لكنها بقيت في مخازنها, الى ان مسّْها الصدأ او كاد, وعندما اخرجناها الى «الميادين», لم نستخدمها إلاّ ضد الشقيق والصديق, فامتلأت خزائن الأعداء بالأموال, وارتاحت صدورهم شماتة, وأملاً باقتراب قيام العرب, كل العرب, بِرَفع الراية البيضاء امام العدو الاسرائيلي الذي اكتشفنا – لفرط انبطاحِنا – انه شريكنا في معاداة المسلمين الشيعة وكُرهِ الفرس والعجم (..).
لم تكن المناخات والأجواء هذه, سائدة في زمن مطران القدس الشجاع ابن حلب الشهباء, التي اجتاحها تتار العصر وخوارجه فأحالوا عمرانها الى خراب، وهدموا حضارتها وولغوا في دماء شعبها, بدعم عربي صرف، وقاحة عثمانية تصل حدود الانتقام من كل ما هو عربي، ثأراً لتاريخ قديم وحلم سقيم, باستعادة مجد بائد وتراث أسود من الاستبداد والتخلّف والعسف.
مطران القدس منذ العام 1965، الذي لم تُغادِر عقله ووجدانه, مدينة السلام التي سار السيد المسيح عليه السلام على درب آلامها وآلامه، وكان سقوطها في يد عدو المسيح والقدس وكل ما تمثله، نقطة التحول في حياة هذا المطران الشجاع المُتقشِّف, الذي لم يكن رهين لباسه الكهنوتي بقدر ما كان مُنسجِماً مع قناعاته الدينية والوطنية والاخلاقية, بحق الشعب الفلسطيني الثابت والأبدي في مدينة المحبة والإخاء والتعايش, التي دنسّها المُحتلّون وأعلنوها عاصمة أبدية لهم، وراحوا يبذلون كل ما توفر لديهم من أوراق سياسية وأموال وأساطير توراتية, وأخرى تغرِف من معين الغطرسة والقوة الباطشة والاستعلاء، كي يصبغوها باللون «اليهودي»المُتزمّت والكئيب والمعادي لكل اتباع الديانتين المسيحية والاسلام، رافضاً الاعتراف بعروبتها او الإقرار بحقوق لأحد فيها سوى اليهود. هنا كان المطران كبوتشي يقف في المتراس الاول, مواجهاً محاولات التهويد والأسرلة ومساعي اجتثاث هوية القدس العربية, الاسلامية المسيحية, والطمس على معالمها الدينية والحضارية والتنكيل برموزها الدينية والسياسية, تارة بالإبعاد وطوراً بالسجن ودائماً في اختلاق المؤامرات والاكاذيب، الى درجة نصب «كمين» محكم للمطران كبوتشي نفسه واتهامه في العام ,1974 بمحاولة تهريب سلاح للمقاومة الفلسطينية, فضلاً عن تُهمَة التعاون مع جهات «معادية لإسرائيل», ما استوجب وفق محاكم الاحتلال العسكرية القراقوشية, صدور حكم بالسجن على نيافته لمدة «12» عاما، ولان التهمة مُفبركة من اساسها، اراد العدو من خلالها, «نسف» مكانته الدينية واستبداله بمطران آخر, اقل عداء ان لم نقل على درجة عالية من الانسجام مع الاحتلال (هكذا رام المُحّتل), فإن المطران لم يمكث في السجن سوى اربع سنوات بعد «وساطة» من الفاتيكان, شريطة «نَفيِه» الى روما. هذا ما تم في العام 1978 من أسف, وبقي المطران كابوتشي خارج فلسطين وخصوصاً بعيداً عن القدس التي احبها في شبابه وسنواته الاولى في الكهنوت, حتى الدقيقة الاخيرة التي لفظ فيها انفاسه بعيداً عنها, في منفاه الفاتيكاني, فجر اول من امس.
لم تَرْقَ الاوضاع في فلسطين المحتلة وخصوصاً في طبيعة العلاقة بين الكنيسة والمقاومة الفلسطينية (دع عنك المسجد), الى ما وصلت اليه بين الكنيسة وحركات التحرر الوطني والثورات التي «اندلعت» في اميركا اللاتينية منتصف القرن الماضي, ستينياته وسبعينياته والتي عُرفت بـِ»لاهوت التحرير», الذي «ميّز»هذه العلاقة الايجابية المُنسجِمة مع قناعات كهنة الكنيسة اللاتينية, في ضرورة دعم خطاب «الثوار», بالاحتجاج والمساندة (وليس بالضرورة حمل السلاح) رفضاً للظلم والفساد والديكتاتورية وسياسات إفقار الشعوب، لاختلافات عديدة وربما لِأسباب ثقافية وسياسية واجتماعية, بين ما حدثَ ويحدث في فلسطين والمنطقة العربية وبين ما جرى ويجري في اميركا اللاتينية، إلاّ ان ذلك(على وجاهته) لم يعنِ ذات يوم, ان هناك افتراقاً في النظرة او الرؤية او القراءة الكنسية العربية والفلسطينية, لحقيقة مخططات وسياسات الاحتلال الاسرائيلي الرامية, ليس فقط الى تهويد فلسطين كل فلسطين وعدم الاعتراف بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني, بمسلميه ومسيحييه, وانما ايضاً في بث الفرقة بينهم, ودفع المسيحيين للهجرة من فلسطين والايقاع بينهم وبين باقي ابناء شعبهم, من الطوائف والديانات و»القوميات» الأخرى, كما يحدث داخل اسرائيل من تجنيد للمسيحيين والدروز والشركس والبدو في جيش الاحتلال, واعتبار باقي الفلسطينيين داخل الخط الاخضر... مجرد «مسلمين».
لم يكن المطران كبوتشي من الذين تنطلي عليهم هذه الأحبولات فوقف في وجهها بصلابة داخل السجن وخارجه في المنفى وعلى الدوام.
.. لتكن ذكراك ايها الأب المناضل والجليل وكُلّ الإحترام.. مؤبدة وعَطِرة..
[email protected]