د. زيد حمزة
على مدى خمسة عشر عاماً لم يتوقف الالحاح على اصدار قانون خاص يعاقب الاطباء على الاخطاء التي تؤدي للإضرار بالمرضى وكأنهم حتى الآن ومنذ تأسيس الحكومة الاردنية كانوا يتمتعون بحصانة ما ضد قانون العقوبات الذي يطبق على كافة المواطنين سواء بسواء لا فرق بين طبيب وغيره، والمتابعون المندهشون اصلاً من هذه المفارقة في الالحاح يزدادون دهشة وهم يرون وزارة الصحة ذاتها تطرح مشروع القانون وهي التي تستخدم ( مع الجامعات والخدمات الطبيبة الملكية) آلافاً من الاطباء ولم نسمعها يوماً تعلن عن عدم قدرة القوانين الحالية على النظر في هذه الاخطاء عندما يرتكبها احدهم وتصل به الى المحاكم، كما لم نسمع يوماً ان القضاة تذمروا من عجز تلك القوانين عن الفصل في القضايا المرفوعة لهم ضد الاطباء فطالبوا ببديل لها مع انهم يعملون بموجبها وبما تمليه عليهم ضمائرهم استناداً الى استشارات يقومون بها مع من يشاؤون من خبراء واصحاب اختصاص واستقصاءات مما يشاوؤن من مصادر ومراجع متوفرة الآن اكثر من اي وقت مضى وبغزارة، ثم يصدرون احكامهم على الأطباء تبعا لذلك بالبراءة أو الادانة التي تشمل عقوبات السجن والتعويض وسحب الترخيص بممارسة المهنة وهي على اي حال ليست من اختراع المشرع الاردني بل مأخوذة ومستقاة من قوانين مشابهة في الدول العربية ودول اجنبية عديدة متقدمة في هذا المضمار، كما أننا لم نعلم في اي يوم من الايام ان نقابة المحامين قد تقدمت بمذكرة لوزارة العدل تشرح فيها بناءً على دراسة معينة ان تلك القوانين تحد من حرية محامي هذا البلد في الدفاع عن موكليهم سواء من المرضى أو الاطباء ، لكننا مع ذلك كله ينبغي ان نحترم شكاوى المرضى الذين تضرروا ولم يصلوا الى حقوقهم ، لا على اساس قول الشاعر ( إن نصف الناس اعداءٌ لمن وُلِّي الاحكام هذا ان عدل ) بل على ضرورة تحديث القوانين كي تخدم العدالة بطريقة أكثر دقة وإصلاح القضاء وهو امر مطروح حالياً بما يتواءم مع التغيرات الاجتماعية والتطورات العلمية والمعرفية كي يكون أكثر ترسيخاً لقواعد الانصاف وضمان عدم التفريط بحقوق الناس.
لم أتوقف خلال الخمسة عشر عاماً المنصرمة عن المجاهرة برأيي في ما يسمى بقانون المساءلة الطبية وعن محاولة تفسير الدوافع الكامنة وراءه وكشف الجهات الداعمة له خدمةً لمصالحها، وكنت اعرب عن استهجاني للحماس الذي يبديه له بعض الاطباء من قادة العمل النقابي السابقين بحجة الرأفة بالمرضى من جور الزملاء (!) حتى بعد ان يتضح لهم بان هذا القانون سوف يسلم رقاب الاطباء (والمرضى على حٍد سواء) الى شركات التأمين التي لا تشاطرهم هذا التأسّي بل يحكمها نظام السوق الذي لا يعير وزناً للمثاليات الاخلاقية بل يسوده جشع الانفلات في جنْي الارباح بلا هواده ! أما حكاية ((السياحة العلاجية)) وحشرها للتذرع بحاجتها لمثل هذا القانون من اجل ان تزدهر فيدحضها رأي اصحاب المستشفيات الخاصة حسبما سمعته من بعضهم شخصيا وحبذا لو اعلنوه على الملأ لجلاء الحقيقة. لقد تنبهتْ نقابة الاطباء في وقت مبكر لاخطار هذا القانون فاعترضت عليه–ومازالت – بعد أن تبيّن لها ان التأمين على الاخطاء الطبية ليس كله اجراءً انسانياً بقدر ما هو استثمار مالي يبغي الربح وقد ثبت لها من اطلاعاتها المهنية بشاعة مضاعفاته على مجمل الجسم الطبي وعلى المرضى سواء بسواء في دول عديده تأتي في مقدمتها أميركا التي لم تملك بعض اداراته التي ادركت مساوئه أن تقوم بتعديله لأنه جزء من نظام اقتصادي هائل النفوذ والسطوة ويدفع في اتجاه خصخصة القطاع الصحي العام ويعتبر الخدمة الطبية مجرد سلعة كباقي السلع ينبغي على من يريد الحصول عليها أن يشتريها بماله تطبيقاً لمبادئ ميلتون فريدمان عراب مدرسة شيكاغو التي دمرت اقتصادات كثيرة حول العالم.
فهل تستغربون الآن اذا قلت لكم انني «نقزتُ» حين دُعيت في الاسبوع الماضي لحضور حفل التوقيع على الميثاق الوطني الحقوق المريض الصادر عن الائتلاف الصحي لحماية المريض، لأنني خشيت أن يكون وراءه ما كنت اكتشفته في خبرات سابقة مع جمعيات وهيئات مشابهة من مساعٍ خفية تصب في الترويج لقانون المساءلة الطبية إياه، وكدت اعتذر عن المشاركة لولا أن المسؤولين عنه اكدوا لي انه ليس كذلك البتة فقلت لنصبر قليلا ونرى ما سيكون، فنحن بالمرصاد.
وبعد.. فالاطباء ليسوا ضد قانون محدّث يسائلهم ويحاسبهم على اخطائهم فذلك يحميهم كما يحمي حقوق مرضاهم لكنهم ضد أن تقرر لهم ذلك شركات التأمين التجارية.. وهي المرتبطة بالشركات الكبرى في الخارج !