د. فيصل غرايبة
يوجه الانتقاد عادة لمنطلقات التنمية العربية التي تربط بين»الأصالة» و»المعاصرة»،على اعتبار ان ذلك يجمع بين نقيضين يشير احدهما الى الجديد بينما يؤكد الآخر على الماضي،وهذا هو اللبس بعينه، والذي تزيله المعاجم والقواميس التي تبين أن مفهوم «الاصالة « Originality مفهوم مبتكر شائع لا يعني ابدا ما يعنيه اشتقاقه،ولا يتعلق باسطورة الأصل،يطلق على الابداع والجديد والابتكار والاختراع في حقول الادب والعلم والفن والثقافة،فالاصالة تعبير عن الابداع بلا مثال أو نموذج سابق،والأصيل هو المتميز عن سواه بخصوصية واضحة أو بفرادة مبدعة.
اما»المعاصرة» Modernisation فهو مفهوم رائج لدى علماء التاريخ والاجتماع ينطبق على جملة المتغيرات البالغة التركيب التي تطول المجتمعات البشرية كافة ولو بشكل شديد التفاوت وفقا لأولويات الشيوع البالغة التنوع،الا انه يمكننا حصر استعمال مفهوم التحديث/العصرنة بالمجتمعات التي تسير على طريق التنمية.ويدل مفهوم التحديث على التجديد بالأساليب والوسائل والأنماط المستخدمة بالتعامل مما يجعل الحياة اكثر جدة وحداثة،أما»الأصالة» Fundamental فتدل على الأسس والمبادىء في الحياة وعلى التمسك بها والالتزام بها وتدل على الرأي الصائب والأمر الراسخ،ولا تتضمن الرجوع الى الماضي والمكوث فيه ورفض الحاضر والعيش فيه،الا أن كلمة»الأصولية»اصبحت تستخدم اعلاميا لتدل على الجماعات التي تدعو الى العودة الى انماط السلوك في التعامل من خلال الادارة والحكم،والتي تحتكم لأحكام الدين دون تكييف او مواءمة مع متطلبات العصر ومحدداته.
ويجهد الباحثون دائما في البحث عن الجدة في بحوثهم وتجنب التقليد للسالف من نتائج البحوث السابقة،وبذل الجهد الحثيث والعمل بدقة وعناية حتى تحقق بحوثهم الأصالة اي الوصول الى نتائج جديدة لم يتوصل اليها باحثون من قبل،وتبعا لذلك يجرى الحكم على الابحاث المرسلة الى مجلات علمية محكمة،ليتبين المحكمون من العلماء في مجال التخصص مدى الأصالة بالبحث المقدم اليها،اي هل توصل الباحث الى حقائق جديدة او توصل الى حقيقة لواقع لم يتوصل اليها من قبل،اذ ان البحث او الدراسة فيها فرادة وتميز،حتى يجيز هؤلاء المحكمون ذاك البحث او يرفضوه فيما اذا خلا من الأصالة وبعد عن التاصيل،وظل في حيز ما توصلت الابحاث السابقة اليه وما بلوره العلماء من قبل.وينسحب هذا الشكل من الاصالة على الابداع والابتكار والاختراع في مختلف العلوم ومختلف الأعمال وخاصة في الصناعة.
من هنا جاءت شهادات»براءة الاختراع» وحقوق»الملكية الفكرية»،وما تبعها من معايير»الجودة»و»النوعية»و»الاعتماد»،لتثبت الأصالة في الاختراع وتحصر الحق فيه،ولتمنع الادعاء به من آخرين فيما بعد،والذين ما هم الا مقلدون ومدعون.وتبعا لمراعاة ذلك فقد عمدت المنشآت الصناعية الكبيرة التي تنوي انتاج سلعة كبيرة كالسيارة مثلا وهي لا تملك براءة ولا حقاً في تصميمها،بل نقلتها نسخة طبق الأصل عن مواصفاتها المبتكرة اصلا في بلد المنشأ وفي المنشأة الأساسية،أن تتفاوض وتتفق مع الشركة الأم في بلد الأصل،على غرار ما تفعله دور الصناعة في كوريا الجنوبية،بالنسبة لبعض السيارات الأمريكية الصنع اساسا والمشهورة عالميا مثل: فورد وشيفروليه وكما نرى في الصناعات الصينية التي تحمل اسماء ماركات عالمية مشهورة قامت بداية في اوروبا وأمريكا واليابان،من اجهزة كهربائية وملابس وخلافها، وانتقلت بمواصفاتها الأصلية الى ساحة الانتاج الصيني.
وهكذا نرى ان الأصالة والمعاصرة مصطلحان متفقان بالمعنى ومتوازيان بالفاعلية ومنسجمان بالأهداف ومتطابقان بالطبيعة،وكلاهما ينبع من الحاضر والواقع وينظر الى المستقبل ولا ينشد الى الماضي ولا يبقى أسيرا له، بل بنى عليه واستفاد من تجربته بحلوها ومرها بنجاحها وفشلها بايجابياتها وسلبياتها، متجنبا اخطاءها ومستثمرا نجاحها، يواكب العصر ويعد نفسه لمستقبل أرغد وأسعد للفرد وللمجتمع.
[email protected]