د. فيصل غرايبة
كثيرون هم الذين يتحدثون عن الماضي الذي لن يعود وكثيرة هي كتاباتهم التي تسطر تحت عنوان»الزمن الجميل»، فهم يعتبرون ان الحياة كانت اجمل عندما كانوا شبابا،وان انسان ذاك الزمان كانت تتجلى فيه صفات النبل والجدية والاقدام،وبالمقابل يرثون لحال الجيل الجديد ويعبروا عن قلقلهم على مصيره،وينعون المجتمع بقيمه وتماسكه وطيبته ويعتبرونه آيلا للسقوط،وان الفرد على شفا جرف. فهل كان الماضي اجمل من الحاضر؟وهل كانت الحياة أرغد وأزهى؟ وهل كان الزمان مفعما بالايجابية وحتى المثالية؟..
نتذكر انفسنا عندما كنا طلابا بالمدارس بالخمسينات والستينات اطفالا وصبيانا ومراهقين،نمشى إلى المدرسة سيراً على الأقدام في ذروة الحرِّ أوالبرد،دون أن يتابع لنا آباؤنا أو أمهاتنا دروسنا ومنهم من كانوا أميين أصلا،حتى أنهم لم يكونوا يعرفون لأي صف وصلنا، ولم يتطوعوا ليكتبوا لنا واجباتنا المدرسية،ولم يلحقونا بدروس خصوصية،ولم يقدموا لنا وعودا دافعة للمذاكرة. لم نضطرب عاطفياً من خلافات الوالدين وظروف الأسرة، قلوبنا متعلقة بأمهاتنا،ولا نفتقد الخادمات عند انتهاء تعاقدهن،اذ لم يكن أية واحدة منهن في بيوتنا أساسا.نتذكر جميعا ونحن نمتحن بالمنهج الدراسي كاملاً، ويطلب اجاباتنا للامتحان مفصلة خالية من الخيارات،عدا عن نسخ قطعة القراءة عدة مرات وواجبات بيتية متعددة وطويلة.ننام باكرا عندما تطفىء امهاتنا النور بكامل البيت، ويحدث احيانا أن تنقطع الكهرباء ونحن نؤدي واجباتنا،نبيت وننسى اساءات الزملاء بالمدرسة او الاصدقاء بالحارة،فلقد نشأنا على التسامح،نوقر الكبير ونحترم الجار،ونحافظ على الصداقة.كنا ننظر للأب بوقار وللأم بحنان والى المعلم باحترام.ونتذكر انتقالنا الى الجامعة نتعرف الى زملاء ونقيم صداقات ونحاور أساتذة وزملاء داخل القاعة وخارجها،ونحمل هم الأمة ونشعر بمعاناة الأشقاء خارج الحدود،وننتقد اجراءات ونحلل توجهات،ونتابع أخبارا وننمي لدينا المعلومات،ونخرج باستنتاجات، نهتم بالشأنين الوطني والقومي.
ونستطرد بعد ذلك فنعيب اليوم على أبنائنا انهم لم يصبحوا مثلنا، وننتقد الجيل لأنه لم يكرر طبيعتنا،وكأنه مطلوب من الأحفاد أن يبقوا على سيرة الأجداد،وأن يلتزموا بالمسرب الذي سار عليه السلف بقديمه وقضيضه دون تغيير ولا تجديد،في الوقت الذي تغيرت فيه انماط الحياة وطبيعة العيش وبرزت عند شبابنا اتجاهات جديدة وتوجهات مختلفة،وزادت فيه الامكانيات المتاحة والآليات المستخدمة، بعد الانفتاح على العالم وبعد تلاقح الثقافات وتطور وسائل الاتصال وتجدد الرسائل الاعلامية وتطور البناءات الثقافية.
اننا من خلال تمسكنا بالسلفية الاجتماعية على هذا النحو نناقض انفسنا، نشتاق الى الماضي ونشيد به، وفي نفس الوقت لم يعد بامكاننا ان نمارس انماط عيشه،ولا ان نستخدم ادواته المحدودة وامكانياته المتواضعة وشظفه المشهود وصعوبته المفروضة،كأن نستخدم الصاج او الطابون لنعد الخبز باكر كل صباح،أو نحرث أرضنا الزراعية بانفسنا،ونبذرها بايدينا ونتابعها ونجني محصولها أونعطيها معظم وقتنا،.كما لم يعد بالامكان ان نشعل الحطب للتدفئة أو للطبخ أونشعل البابور-البريموس- من اجل ذلك،ونقلع عن استخدام الغاز او الكهرباء. كما لم يعد بامكان نسائنا ولا بناتنا جلب الماء من العين القريبة من البلدة او القرية..وما بالنا لو أن الطرق المعبدة لم تربط بلداتنا وقرانا بالمدن الأكبر،ولم تتوفر السيارات الكبيرة والصغيرة لنقل الركاب من بيوتهم الى اماكن اعمالهم والعودة اليومية، وتصوروا لو لم تتوفر وسائل الاتصال الألكتروني وبقيت المؤسسات والشركات والمصالح الاقتصادية والثقافية والاعلامية تتراسل وتوثق اعملها يدويا، كيف سنلاقي الصعوبات بالجهد والمال والوقت، ينتابنا الخوف ويساورنا القلق ويهدنا التعب،نشد أنفسنا الى الماضي الذي لن يعود،ولا نحاول الابداع والابتكار للتعامل مع المستجدات،أفرادا وجماعات ومجتمعات،في هذا العالم المتسارع المتجدد المتغير؟.
[email protected]