د.حسان أبو عرقوب
في عصر طغت فيه المادة وحبها على التفكير والسلكوك، وصار الإنسان يعمل جاهدا على تحصيل الأموال لتأمين ضروريات العيش وكمالياته، وانقلبت فيه كماليات العيش –التي يمكن أن يستغنى عنها- إلى ضروريات، صار الأب والأم يمضيان معظم أوقاتهما في العمل لتحقيق سبل الرفاه للعائلة.
وبهذا انقلب دور الأب والأم من التربية إلى وظيفة وحيدة هي تحقيق الرغبات والشهوات للأولاد –ذكورا وإناثا- بحيث انقلب كل منهما إلى صراف آلي لتلبية الطلبات.
والنتيجة التي تحصلت من هذا الانقلاب في الدور والسلوك أن تقطعت العلائق بين الوالدين والأولاد، فالولد لا يرى أباه أو أمه إلا قليلا، بسبب الانشغال لتأمين الأموال، فضعفت الروابط بينهما وانحصرت في الاسم الذي يحمله الولد من أبيه، والطلبات التي صار واجبا على الأب والأم أن يحققاها لولدهما ليحقق السعادة، ولا يشعر بالدونية عن أصحابه وأترابه. فصارت العلاقة العاطفية بين الطرفين شبه منعدمة، وصارت القسوة في التعامل بين الطرفين ملحوظة، فحب الولد لأبيه أو أمه مرهون بتحقيق رغباته، وهذا حب مشروط بالمصلحة وليس حبا حقيقيا نابعا من قلب محب يشعر بالامتنان لمن كان سبب وجوده، ويفني عمره من أجل سعادته. وكذلك صار الأهل يعتبرون أن مقدار حبهم لأولادهم يترجم بالكم الذي يحققونه من رغباتهم وطلباتهم.
وأصبح الأولاد يرتدون ثوب الأنانية والأثرة ، لاعتقادهم أنهم يستحقون كل شيء لا شيء إلا لذواتهم، وأن من واجب الوالدين إشباع شهواتهم في الحياة بغض النظر عن تعبهما أو مرضهما إذ لا عذر للوالدين في نظر الأولاد.
وبهذا يغيب الوالدان عن حياة الولد الشخصية، ولا يعرفان عنها إلا النزر القليل، فهما يظنان أن ولدهما يعيش سعيدا بالهاتف الذكي-مثلا- الذي وضع في جيبه، وأنه لا ينقصه شيء في الدنيا. لكن وخلال غيابهما المستمر عن الولد، ماذا يفعل فيما وضع بين يديه من جهاز ذكي أو جهاز حاسوب أو مال وفير؟ فهذا علمه عند ربي.
وهنا يبدأ الولد –ذكرا أو أنثى- بفعل ما يشتهيه، وفي الغالب لن يسلم من الانحراف والضياع، إذ غياب الدور المهم للوالدين يعوض تلقائيا من رفقاء السوء، فالطبيعة لا تقبل الفراغ، وعندها يكون رفيق السوء هو الموجه والدليل للأولاد، وبهذا يفقد الوالدان العلاقة الحقيقية بينهما وبين أولادهما، ويتنازلان بإرادتهما عن أهم دور منوط بهما وهو التربية والتوجيه.
لا شك أن الحل لهذه الكارثة الأسرية موجود وسهل، ولا بد من أن نتعرف عليه؛ لنحمي أنفسنا وأولادنا، ونحافظ على المجتمع الذي دائما ما نردد أن الأسرة هي لبنته الأولى، ويتمثل الحل - من وجهة نظري - في الآتي:
1- الإشباع العاطفي.
من الضروري أن يقوم الوالدان بإشباع الأولاد –ذكورا وإناثا- عاطفيا، فيجلسان معهم، ويقومان بسرد ألفظ الحب والعاطفة على مسامعهم، ويبادران إلى تلقيهم بالأحضان، وتقبيلهم، والاستماع إلى مشاكلهم، لكي لا ينشأ الطفل فقيرا من الناحية العاطفية، فيحاول أن يملأ هذه العاطفة من خلال التعلق بالأمور المادية، وعبثا يحاول؛ لأن المادة لا يمكن أن تحل محل المشاعر والعواطف.
2- لا بد أن تقول: لا.
أن يحمل الوالدان أنفسهما فوق طاقتهما ويعملان ليل نهار لتحقيق رغبات الأولاد أمر غير مطلوب ولا مرغوب، فأمام كثير من طلبات الأولاد ورغباتهم تمتلك سلاحا فعالا فهو كلمة لا. ربما تعد هذه الكلمة صادمة للولد وسيستخدم أساليب لمقومتها، مثل مقاطعتك، أو البكاء، أو إظهار الحزن، أو ربما تمادى ليخبرك أنك أسوأ أب في العالم، أن أنك أسوأ أم، وأن والد فلان أو والدتها قد فعلا لابنهما كذا وكذا، وأنني أشعر بالنقص والحاجة بل والدونية في ظلكما. فلا تكترث بما يقول أو يفعل، وكن عند كلمة لا.. تعني لا. فليس شراء هذا الشيء في سلم أولويات العائلة، ولا يدخل الآن في الميزانية المحدودة.
وبهذا يتعلم الولد قاعدة مهمة في التعامل –والأولاد يحبون القواعد في التعامل- أنه ليس بالإمكان تحقيق جميع الطلبات، وهذه قاعدة مهمة في الحياة، وهي من السنن الكونية، فما كل ما يتمنى المرء يدركه، حتى الكبار من الآباء والأمهات لا يحققون وليس بمقدورهم أن يحققوا كل أمنياتهم ورغاباتهم، فتعليمهم هذه القاعدة مبكرا سيكون أكبر هدية تقدمها لأطفالك.
3- لا يوجد شيء بالمجان.
ربما يكون الوالدان قادرين على تحقيق رغبة لولدهما، ولكن هذا لا يعني وجوب تحقيقها بالمجان، فلك حال تمكنك من تحقيق هذه الرغبة أن تستثمر الموقف في تربية هذا الطفل على قاعدة جديدة من قواعد الحياة، وهي أن الدنيا لا تقدم شيئا بالمجان، فلكل شيء ثمنه، لذلك من الجميل أن يطلب من الولد أن يحقق إنجازا ما ليستحق بالمقابل تحقيق رغبته، فمثلا يطلب من البنت أن تساعد أنها –إن لم تكن تعتاد ذلك- في عمل البيت أو رعاية إخوتها الصغار لمدة أسبوع، أو أن يكلف الابن برعاية الحديقة أو سقاية الزرع وغسيل السيارة لمدة أسبوع، وهنا تظهر ثلاث فوائد:
الأولى، أننا نعلمهم القاعدة المهمة أنه لا يوجد في الحياة شيء بالمجان، وأنك لا بد أن تقدم شيئا مقابل ما تأخذه، فالحياة هكذا تسير، وهو درس لابد أن يتعلمه الأولاد، كي لا ينشأ الولد أنانيا نرجسيا، يظن أنه يستحق كل شيء لذاته فقط، بل يستحق إذا بذل وأعطى.
والفائدة الثانية أننا نعلمهم على التعاون في إدارة شؤون الأسرة وأنهم جزء لا يتجزأ منها، وأن إدارة البيت مشتركة، نعزز وجوده في الأسرة كطرف منتج لا مستهلك، وسيحرص الأولاد عندها على بيتهم وحمايته من الفوضى؛ لأنهم هم من سيكلف بإزالتها، وإعادة ترتيبها.
الفائدة الثالثة: البنت ستصبح ربة أسرة مسؤولة عن بيتها في يوم من الأيام، فلا بد من أن تتعلم شؤون إدارة المنزل، وكذلك الابن سيكون له بيته في يوم من الأيام فلا بد أن يتعلم كيف يصلح وينظف ويعتني ببيته، وهنا الفرصة الذهبية لذلك، أعمل لا بالمجان بل أنال ما أريد وأتعلم.
4- القيم والقوانين.
ينبغي على الوالدين أن يعلما الأولاد –ذكورا وإناثا- القيم والأخلاق والعادات والتقاليد والقوانين المنزلية، أن يتم تبيان المساحات والحدود في العلاقات والتصرفات، كي يظل سلوك الأولاد منسجما مع المجتمع، غير غريب عنه ولا شاذ. فمثلا من الناحية الدينية يعلم الأولاد مصطلح الحلال والحرام، فبر الوالدين واجب، وعقوقهما حرام، وإيذاء الجار حرام، والغش حرام...وهكذا. ومن الناحية الاجتماعية يعلم أن لبس ملابس الرياضة خلال جاهة العرس عيب، وأن الوقوف أما البيوت أو مدرسة البنات دون سبب عيب؛ لأنه يجلب له الشبهة..وهكذا. ويعلم القوانين المنزلية مثل: لا يسمح بالخروج دون إذن، وعليك الإفصاح عن مكان خروجك، ويمنع التأخر عن الساعة الثامنة مساء. وهكذا. وبهذا تنتظم وتتنظم حياة الأولاد، ويمكن السيطرة على بعض سلوكياتهم وتوجيهها بالاتجاه الصحيح.
5- الثواب والعقاب.
وهذه منظومة لا بد منها، ولا غنى عنها، فإذا اتبع أو خالف الولد –ذكرا أو أنثى- منظومة القيم والأخلاق والقوانين، فعندها ينبغي أن يقوم سلوكه بمنظومة الثواب والعقاب، الثواب عند الإلتزام، والعقاب عند المخالفة. ونعني بالعقاب توجيه اللوم والعتاب، ثم الحرمان من بعض المشتهيات والطلبات ، وقد يرتقي الأمر للمقاطعة المؤقتتة بالكلام، أو غير ذلك من وسائل سلمية. الهدف منها تعديل السلوك المخالف لا العقوبة بحد ذاتها.
فإن اتبعت هذه الإرشادات لسوف يجني الوالدان ثمرة تربية صالحة، وعلاقة متينة مع الأولاد، بحيث يصبح كل من الأب والأم هما الرفيق والصديق، وتكون العائلة منتجة في المجتمع.