د. زيد حمزة
البهدلة التي أستعملها هنا كلمة دارجة في لغتنا العامية لكني لا أخالها عربية الأصل كما أنها تفتقر للفعل الثلاثي وبالرجوع للمعاجم لم أجد لها أصلاً في اللغات الأخرى التي أخذنا عنها كالفارسية واليونانية واللاتينية أو حتى التركية ! ولا أظن احداً يهتم الآن بأن يعلم أن (بهدل) معناها جرو الضبع كما جاء في قاموس محيط المحيط ! وفي رأيي ان اقرب مرادف للبهدلة بالفصحى هي (المَهانة).. أما عن شيوعها في بعض جوانب الحياة السياسية الاميركية فقد تناولتُه ذات يوم في مقالٍ قديم بعنوان (بهدلة) بتاريخ 18/ 8 /1998 شارحاً ما حدث من أساءة وإذلال للرئيس بيل كلينتون وهو يجلس على اكبر كرسي رئاسي في العالم والتحقيق يجري معه امام الملأ على شاشات التلفزيون باسئلة خادشة للحياء عن تفاصيل محرجة في علاقته الجنسية بمونيكا لوينسكي الموظفة في البيت الابيض ! وأجدني اليوم أمام مشهد آخر من مشاهد (البهدلة) العلنية بطلاه هذه المرة مرشحا الرئاسة هيلاري كلينتون ودونالد ترامب (وأحدهما قطعاً سيصبح رئيسا بعد اسابيع قليلة)، حيث يتبادلان التهم الهابطة المستوى في الحوارين الكبيرين اللذين لم اتابعهما شخصياً كما فعل الكثيرون هنا وحول الكرة الارضية لا لأن موعد البرنامج لا يناسبني إذ يأتي حسب توقيتنا في ساعات الفجر الاولى بل لأني في الاصل لم أعد مهتماً به نتيجة خبرات سابقة مخيبة للآمال وكذلك بعد اطلاعي على ما انكشف في الصحافة الاميركية من بعض الحقائق التي تحيط بهذه الحوارات الممسرحة وبالذين يعدونها ويحضرون لها ويخرجونها إخراجاً دقيق الفصول حتى فيما يتعلق بمن يُدعى لحضورها (ومن يُمنع) فالقضايا التي تطرح فيها والادوار المحددة التي يقوم بها سائلون معينون تناط بهم هذه المهمة ! كما ان هذا الحوار المهرجان نفسه لا يخلو من حوافز تجارية ليست غريبة على اقتصاد السوق من اجل جني ارباح تتزايد مرة بعد أخرى وبنجاح كبير!
ومن المؤسف ان الاعلام الاميركي الطاغي مازال قادراً على أن يجرجر الناس في كل بقاع الآرض لتضييع وقتهم بمثل هذه التظاهرات المثيرة الفارغة باسم الديمقراطية وحق الاطلاع على المعلومة الفضيحة وحرية النقد حد الاهانة ! فلقد سمعت بين ما سمعت عن الحوارين الاخيرين من طرائف أو مخازٍ تستحق صفة (البهدلة) أن المرشح دونالد ترامب قد غمز من جانب منافسته بما حدث حين كانت زوجة الرئيس بيل كلينتون في فضيحته مع مونيكا لوينسكي التي اشرت اليها في مقالي عام 1998 ، كما قرأتُ ما أوردتْه مثلا وكالة الانباء الفرنسية (16/ 10/ 2016) ونشرته صحفنا حرفيا عن (تصريحات ترامب المنحطة حول النساء وكلماته البذيئة عنهن مقابل الاتهامات الموجهة له بالتحرش الجنسي حتى قالت احداهن إنه وضع يده بين ساقيها من تحت الثياب )!! وفي مجال آخر من الحوار انتقل المرشح الى تهديد منافسته بأنه في حال فوزه بمنصب الرئاسة فاول عمل سيقوم به هو ارسالها الى السجن وإحالتها للمدعي العام للتحقيق معها بتهم (كان قد عددها في مرافعته !) والشيء المضحك المحزن في آن معاً أنه تصرف بهذا التهديد وكأنه لا يعلم انه يعيش بل قد يصل الى سدة الحكم في دولة حديثة كبرى لديها منذ زمان طويل نظام قضائي يعطي أي مواطن مهما كان شأنه الحق في أن يتقدم بشكوى للمدعي العام إذا نُمي لعلمه ما يستحق ذلك ، وهو يعني أن تهديد ترامب يشبه وعيد شخص جاهل احمق في بلد غير ديمقراطي إذ يتمنى وهو في قمة غضبه أن يستولي على الحكم ليفعل كذا وكذا انتقاماً أو ثأراً من خصمه متمثلاً ربما بقادة الانقلابات العسكرية الذين عرفهم يفعلون ذلك !
وبعد.. من ذا الذي يغفر لاميركا مثل هذا الهبوط السياسي في معركة الرئاسة بابتعادها ليس فقط عن روح الديمقراطية الحقة اذ تنحصر آخر المطاف في حزبين اثنين ومرشحينْ لا غير، أو ابتعادها عن اخلاقيات التعامل بين سياسيين محترمين في بلد ديمقراطي كبير، بل في ابتعادها كذلك عن التصدي الجدي للواقع الاخطر في العالم الذي تكاد تدمره حروب تقودها اميركا نفسها.. أو تقف خلفها!