عصام قضماني
إن كانت مدنية الدولة الأردنية محسومة , إنما كان لا بد من تنوير يدخل الى صلب النقاش الدائر حول العناوين فجاءت الورقة النقاشية السادسة لجلالة الملك في هذا السياق تأطيرا للحوار وترسيخا لقواعد بنيت عليها الدولة.
مستغرب أن تشتق بعض الأراء ما يروقها فتذهب الى جزئية العلمانية والمدنية , وتغفل القاعدة الأساس وهي سيادة القانون وقوامه الدستور وهما موضوعان ومدنيان وإن استندا الى مبدأ دين الدولة العام وفي ذات الوقت حرية الأديان والتفكير والإعتقاد.
لسبب أو لآخر لم يلتفت أحد الى دستور المدينة المنورة الذي كتبه الرسول العربي الهاشمي , فهو تماما ما أرادت الورقة النقاشية السادسة أن تجسده كهوية للدولة الأردنية , هو دستور مدني متكامل يكاد يكون الأول من نوعه في التاريخ , ولسبب أو لآخر غيب الإسلاميون هذا الدستور بكل معانيه ومراميه في التعددية وإحترام الأديان والأعراق وحرية المعتقد وتأسيس نواة لرأسمالية فريدة ذات بعد تعاضدي وإجتماعي فريد.
ببساطة ومن دون رتوش , الدولة المدنية ترمي الى تحقيق العدالة والمساواة في إطار القانون المدني.. من قد يقف ضد هذه الهوية؟.
ليس مصادفة فليس هناك من يعتقد أن الرسول عليه السلام ينطق عن هواه أن دستور المدينة أو صحيفة المدينة :إحتوت على 52 بندا، 25 منها خاصة بالمسلمين، 27 لتنظيم العلاقة بين المسلمين وأصحاب الأديان الأخرى، ولاسيما اليهود وحتى عبدة الأوثان وإن كان هناك من يتحرج في ذكر الأديان الأخرى بأسمائها فقد ذكرها الرسول ولنا فيه أسوة حسنة وقد ذكر اليهود ولم يكن في المدينة نصارى أنئذ لا بل وثق هذا الذكر في صحيفة يتداولها الناس الى يوم القيامة.
دستور المدينة الذي أعاد الملك تذكير الناس فيه وخصوصا الإسلاميين ممن يحتكمون في الحد بين الأشياء الى الله ورسوله سمح لأصحاب الأديان بالعيش مع المسلمين بحرية، وأن يقيموا شعائرهم حسب رغبتهم وبحرية أيضا وهي قاعدة رسخها عمر بن الخطاب في القدس التي اختار زيارتها دون غيرها من الأقطار التي فتحت في عهده لسبب بظني أنه تعلق بذات الغاية التي وردت في دستور المدينة وهي حرية المعتقد وحماية شعار الأديان الأخرى في إطار من التسامح والمدنية المطلقة وإلا لما بقيت كنيسة القيامة قائمة حتى يومنا هذا وإلا لما كان هناك مسجد عمر ولما جاءت العهدة العمرية من وحي ذلك الدستور.
السجال السياسي والإجتماعي الدائر لن يتوقف وليس مطلوبا أن يتوقف لكن يجب أن يترشد في ضوء المعاني التي تضمنتها ورقة الملك المطروحة للنقاش , وهو يدل بلا أدنى شك على مخاض سينجب في النهاية توافقا وطنيا فيه مساحة حرة للجميع.
مشروع الدولة المدنية يواجه تحديات كبيرة الدين أهونها , فهناك التمترس القبلي والعشائري والعائلي , وهناك محاولات إختطاف الدولة والمجتمع نحو قالب جامد محدد وهناك أحزاب تحتكر الدين بإعتباره تعبيرا سياسيا لأهدافها في الوصول الى السلطة , ولا أحسب أن هؤلاء يريدون قيام دولة دينية ولا أحسب دعاة مدنية الدولة يريدون مجتمعا علمانيا مع أن ذلك لا يجب أن يتناقض مع مبادىء الدين وكافة الأديان التي نرضى بها جميعا وترفض تلك النماذج الإقصائية التي أقامها متطرفون في مناطق جغرافية من حولنا , لأن الأردن الذي يواجه معركته ضد الارهاب لا يواجهها فحسب بالسيف إنما بالدولة المدنية التي تحترم الدين ولا تقبل التشدد فيه وتهتدي بتعاليمه ولا تأخذ بمغالاة البعض كما يفهمها من مفاهيمه.
[email protected]