د. زيد حمزة
ملتقى مواجهة تاريخ الأدب الذي عقدته مؤسسة عبد الحميد شومان بالتعاون مع مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية الأسبوع الماضي في عمان، تُرى هل ارتفع حقاً لمستوى التحدي الذي حمله عنوانه؟ أي هل جرؤ المتحدثون على الغوص في التاريخ العربي وأدبه لكي يجلوا لنا الحقيقة ويضعوا أيديهم على التزوير الذي اكتنفه منذ كُتب او سُرد او رُوي !؟
أظن وأنا الذي حضرته بساعاته الطويلة على مدى يومين اثنين، دون ان أطلق حكماً قاطعاً، ان الجواب نعم حتى لو شاب هذه النعم ملاحظات هنا او اعتراضات هناك، ويكفيني اطمئناناً ان الأكاديميين الفضلاء من أهل الأدب والتاريخ والفكر والفلسفة القادمين من مصر والمغرب وتونس والعراق والبحرين ولبنان والملتقين بزملائهم وزميلاتهم في الأردن لم يوفروا جهداً إلا وقدموه بأمانة في أوراقهم البحثية المعمقة، والأكثر أهمية من ذلك في تقديري انهم أثاروا في أذهان الحضور من المدعوين المهتمين والمختصين الآخرين عديداً من الأسئلة التي يتوجب عليهم وعلى مجتمعاتهم الفكرية الإجابة عليها، كما نثروا أمامهم مجموعة من الشكوك لعل في التصدي لها تتحرك الطاقات المعطلة فتخوض معركة التغيير والتطوير بإعادة قراءة التاريخ وآدابه المختلفة من اجل فهم جديد يقبله العقل وصياغة جديدة يقرها المنطق، فلقد بدا واضحاً جلياً منذ البداية ان لا احد راضٍ عن رواية تاريخنا المعاصر كما ألفّها كتاب السلطة خضوعاً لأهواء الأنظمة الحاكمة او نزولاً عند رغباتها في غياب الحرية وطمس الديمقراطية فلم يطلها التصحيح والتصويب الا نادراً، إما إثر تداولٍ للسلطة بالصدفة او بعد الإطاحة بها قسراً، اما رواية تاريخنا القديم ففي معظمها لم تعتمد كما ينبغي على كتب ومراجع التراث الموثقة المدققة بل خضعت لعاطفة تمجيد الماضي والتفاخر به حتى لو كان قائماً على الكذب والافتراء او جاء مجاملاً لمذاهب بعينها او طوائف دينية على حساب أخرى، ولقد تراوح ذلك بالطبع بين عهد سياسي وآخر دونما ادنى احترام للموضوعية التي تشترطها علوم التاريخ .
لا يضيرني هنا ان أدلي بدلوي في هذا الخضم العرم وأنا الآتي من ميدان آخر خارج الاكاديميا الأدبية فقد تشفع لي حياة مهنية غاصت بي على مدى ستين عاماً ليس في أوجاع الجسد فسحب بل في دهاليز النفس البشرية فاقتربت كثيراً مما ينهض به الأكاديميون، او تشفع لي مئات من المقالات الصحفية على مدى نصف قرن وكان معينَها شغفٌ لا ينضب بالأدب والتاريخ والرواية، ودأبٌ لم ينقطع في عالم السياسة، ويشفع لي أخيرا انني احترم رأي اهل العلم والاختصاص وأتعلم منهم، وحين أناقش او انتقد او ارى بعض ما لا يرون فذلك حق طبيعي في النقد.. كما النقد الذاتي.
في مسح سريع لوقائع الملتقى التي تطرقت للتاريخانية والسرد والتحقيب رأى البعض أن الرواية التي تتصدر منذ ربع قرن تقريباً واجهة الإنتاج الأدبي بكل أنواعه قد تشكلّ بديلاً للتاريخ الذي زوّره مؤرخو السلطة وأنا أراها مجرد فاتحة لشهية العقل في سعيه نحو الحقيقة، ثم ناقشوا الاستشراق واهم ما كتب فيه وعنه ادوارد سعيد، كما تطرقوا لأعلام كبار آخرين مثل اينشتاين (!) الذي لم ينجُ من جدل ثقافي حول ما نقل عنه في البصيرة الدينية والبصيرة العلمية، ومثل ميشيل فوكو الذي كتب عن السجن والعقوبة باعتبار المساجين مرضى عقليين او مجانين وما درى ان عصراً سيأتي بعده تصبح فيه السجون بفعل الخصخصة ملكاً للشركات تديرها على أسس تجارية فتغرقها من اجل ان تجني مزيداً من الأرباح بزبائن لم تعرفهم من قبل حسب قوانين جديدة استطاعت بنفوذها ومالها وإعلامها ان تجعل الكونغرس الأمريكي مقتنعاً بها ومتحمساً لتشريعها وإصدارها ! حتى أن الرئيس اوباما اضطر ان يزورها قبل ايام ليرى بأم عينيه الصورة المزرية لنزلائها وهم يقضون في السجن سنوات طويلة لمجرد ارتكابهم جرائم بسيطة اصبحت تؤدي بكثير منهم الى الغرق فعلاً في عالم الجريمة .
وعندما تعرض الملتقى لتاريخنا فيما يسمى عصر الانحطاط منذ سقوط بغداد مروراً بما سمي عصر النهضة والتنوير دار حول الأول حوار متشعب شارك فيه الكثيرون بحيوية بالغة، وثار حول بعض رموز الثاني خلاف حسم جزءا منه الدكتور جابر عصفور (مصر) حين تحدث عن الدكتور طه حسين في إسهاب ممتع جذاب ولم ينس المعركة الأدبية الشهيرة التي أثارها مقاله في جريدة الجمهورية عام 1954 ورد عليه في حينها محمود امين العالم وعبد العظيم أنيس ممثلين لتيار الادب الجديد، ومن الطريف اننا (الدكتور عصفور وأنا) عايشنا شخصياُ تلك المعركة في القاهرة ! .
وفي النهاية عبرت الدكتورة هالة فؤاد (مصر) عن نبرة التحدي حين رفعت راية الدفاع عن علوم الفلسفة التي جار عليها أصحاب الفكر المتخلف حتى تمكنوا من إلغائها من المناهج الدراسية في اكثر من قطر عربي !
وبعد.. فلقد أقلقني غياب روح المرأة عن تاريخنا رغم حضورها الجسدي في الملتقى!.