عبدالهادي راجي المجالي
زمان قبل (30) عاما , كانت أمي تعقد اجتماعا للجارات في (ابو نصير) وغالبا ما تكون طارئة وذات جدوى , وكنت أستمع لجدول الأعمال فهن غالبا ما يتحدثن عن الكوسا , ولماذا فرطت ...أحيانا يتم الحديث عن (التيفال) وكانت تلك الطنجرة قد حققت ثورة حقيقية في عالم الطبيخ ..وفي بعض الأحيان , يتم التطرق إلى موضوع , المقدوس ..وكانت إحدى الجارات تملك رأيا مهما في الجوز ..
جارات أمي واحدة شيشانية , وأخرى درزية , وأخرى من مخيم سوف للاجئين , وواحدة مسيحية , وأم العبد جاءت من الشام , وأم سعد بدوية ..وأخريات لا أتذكرهن , ولكن كان لي وظيفة مهمة في اجتماعاتهن وهي مناداتي من قبل بعضهن لقراءة فاتورة الكهرباء , فيما بعد تبين لي أن أغلبهن (أميات ) لا يجدن القراءة ولا الكتابة ..بما فيهن أمي .
كانت دالية منزلنا , هي المكان الذي يعقد تحته كامل الإجتماعات , وكنت دائما حين أمر من أمامهن , يقمن بالدعاء لي , وبعضهن يقمن بالثناء على أدبي وأخلاقي , وكوني الطفل الوحيد الذي لايسبب الإزعاج للجيران ..ولا يدخن ,بعكس بقية الأطفال , وأنا كنت أغض الطرف وابدي بعضا من الخجل , والحقيقة تكمن في أنني من علم الجميع ...كل أشكال التمرد , فقد كنت مرجعيتهم ...في الحب والتدخين والهروب من المدرسة .
ذات مرة عقد اجتماع مطول , تم فيه مناقشة سعر الغسالة (أم حوضين) وكانت اختراعا جديدا أيضا ظهر للتو .
اخر مرة زرت حارتنا القديمة في أبو نصير , اكتشفت أن جميع النساء اللواتي كن يغمرنني بالحب والدعاء , جميع جارات أمي قد التحقن بالرفيق الأعلى ..ومات معهن زمن من الود والتصافي والحياة .
دالية أمي كانت تجمع تحتها شتى الأصول والمنابت , وكل واحدة منهن كانت أمي ...وكل واحدة منهن , كان الرضى بالوطن والحياة والأولاد يغمر قلبها ..
لماذا حين اتسع الأفق , وتجاوزنا لقاءات الدالية , إلى لقاءات الفيس بوك ووسائل التواصل الإجتماعي , صارت أمراضنا الطائفية ..والفئوية والجهوية تظهر على السطح ؟ ..في حين أن مجتمع (الدالية) كان نقيا وديا , ويلمنا ..
الأميون بنوا دولة حقيقية , فالذين حاربوا في ال (48) وفي ال (67) وفي ال (68) أغلبهم كانوا من الأميين , ولكنهم بنوا وطنا من المعرفة ..والنساء اللواتي أنجبن من هم في جيلي , أغلبهن كن (أميات) ولكنهن زرعن فينا الصبروالإرادة
لكن للأسف , حين كثرت الشهادات , وصارت جامعات بريطانيا متاحة وموسكو قريبة جدا , والتخرج من أمريكا سهلا ...صار خطابنا كله مبنيا على وحدة المجتمع , وتجاوز الطائفية , ونبذ العنصرية , ومكافحة التطرف ..
محمود درويش كان يحن إلى خبز أمه , وأنا أحن إلى اجتماعات الدالية في منزلنا القديم بأبو نصير ....فقد كان للوطن طعم أشهى .