الباحث في اللغات والمفكّرالتاريخي الاردني د. « سلطان المعاني « نقرأ في كتابه (أدبيات المكان وذاكرته) عن منطقة عراق الأمير التاريخية ووادي السير ما يلي:البيادر.. جمعها بيدر وهي في الاشتقاق من الآرامية, مركبة من كلمتين, حرف الباء مختزل كلمة بيت ودَريا درس القش.. فالبيادر مكان درس الحبوب والبقوليات التي كانت تزرع بكثافة في المنطقة.. وما زالت لولا التوسع العمراني الذي ازدادت رقعته.ولو مضينا في المنحى الاشتقاقي والدلالي للتسميات في وادي السير وجوارها. البيادر وعبدون وناعور, لتآزرت هذه الأسماء مع الأطروحات التي تنطلق منها تسمية عراق الأمير والبيئة الطبيعية المحيطة, فاسم عبدون وفق الوزن فعلون صيغة كنعانية معروفة, تعمل الواو والنون فيها عمل النهاية المكانية في أسماء المواقع العمونية والمؤابية عمون وديبون وحشبون, والتي تقابل تتالياً عمان وذبيان وحسبان, غير أن الاسم العموني عبدون حافظ على صيغة فعلون. وبتجريده من اللاحقة واو ونون, وهي النهاية المكانية في أسماء المواقع الكنعانية, فإن الاسم (عبد) يشير إلى ذات التسمية والمعنى في قصر العبد.. ولعله يشير إلى العبد طوبيا الأمير العموني, وهو طرح اشتقاقي دلالي للمفردة يحتاج إلى تأصيل البحث التاريخي المساند! غير أن أكثر من باحث, قد أشاروا إلى ورود الاسم «أبدون» في اليونانية مؤشراً على خربة أثرية تقع جنوبي غربي عمان.ومن المواقع إلى الجنوب من وادي السير بلدة ناعور. وهو اسم يعني وفق رأي الجغرافيين العرب ابن خرداذبه وياقوت الحموي «الاخضرار», وهذا يناظر البيئة الطبيعية الجميلة في منطقة الوادي. ولعله من الاشتقاق الآرامي ناعورتا «طاحونة الماء», وهو ما يناسب غزارة مياه الينابيع وكثرتها في المنطقة آنذاك.الأُسُود واللبؤات والصوارم الصقيلات تختصر اللحظة في قصر عراق الأمير.. تبحث عن ومضة البعث الجديد.. تمنح «بدر بن عمار» على نهر الأردن سوط تعفير الليوث.. وتطلق أسراب الأماني بين يدي هيركانوس, تتناسخ فيها النسور النافرة على جدران قصر العبد طوبيا, الأمير العموني, لِتُسْبِل جُنْحَها تعانق سماء عمان.في مراح الذكريات عرفت قصور وكهوف وادي السير في القرن الخامس قبل الميلاد طوبيا العبد.. الأمير.. نقشت اسمه على عتباتها ليشهد لحن الفصول الجميل.. يحمل الخير والنعمة في اشتقاق الاسم والفعل.. فالقصر قصر العبد طوبيا.. صاحب الحمد والشكر في الدلالة.. وقد سمي القصر عراق الأمير.. تشبيهاً لمدخله بالكهوف التي تنبث في المنطقة. على مرمى النظر من القصر, الذي شيد في العصر الهيليني أيام سلوقيوس الرابع, على يدي هيركانوس قريب طوبيا العموني.. يزيح الأفق ستائره.. يبسط المدى بحجم طوبيا.. ليزأر ليثاً يتلاشى فيه وَهمُ نِحميا بوجود الهيكل.. هناك على مرمى البصر من البيادر تكسر أسوار القدس صمت الأسفار.. وتعلن أن كنعانياً بلكنته العمونية أفصح لها.. أن المسافة بين أسوارها وعمان حبل الوريد.في ربيع الوادي.. تتهجى الطفولة خطوها.. والبتول خدرها.. وتمْثُلُ الينابيع في حضرة القمر.. لا شيء ينكر ذاته.. ويظل عراق الأمير.. وتظل كهوف الوادي سرمد الحنين الممتد من العصر النحاسي في قرون ما قبل التاريخ.. بتعاقب العمران والإنسان.. ويَرْشُدُ المكانُ إذ يرتدي بردة النور.. فتعرف الشمس خطوها إليه.. تحمل أمانة العمران للعرب المسلمين منذ بدء الفتح.. تتراسل فيه الوصية جيلاً بعد جيل على صولجان المجد وتاج هاشم.عندما ينحاز المنجز للتراب وملح الأرض ورائحة خبزها يتكون في الوجدان ميراثاً عزيزاً.. لا ترهق أهله أمانة العشق.. ولا يطويه من وجدانهم الغياب.. فظل قصر العبد منذ القرن الثاني قبل الميلاد خصب الذاكرة.. وتلاوة سفر يقبض على مكنوز الوادي ما بدا منه وما يخبئ بين تشعباته وكهوفه ومواقعه الأثرية الكثيرة المنتشرة فيه .. وظلت جداول الوادي عاشقة للورد تروي الحلم.. تتقن دورة الحياة.. لم تسترح من تعب.في ربيع الوادي تقطف الصبايا عناقيد النجوم.. وزهر اللوز.. ينثرنه على الطرقات والشرفات.. في برية كانت غنية بالبيئة الحيوانية كما تصور منحوتات القصر. وإن سحر الطبيعة الذي يتملكنا ونحن نزور منطقة عراق الأمير يمنحنا أفق الخيال ونحن نعود بالذاكرة إلى بدايات القصر حيث النسور تحلق في السماء والغزلان والأسود والظباء والحيوانات البرية تسرح في فروة الوادي الجميل .. وقد تسامقت فيه شجر الحور مبتهجة بفارع طولها وظلها الوارف.. وتفتح نوار الرمان على ظل غيمة.. وسالت الجداول سلسبيلاً رقراقة تروي عوسج الدروب والأخضر الممتد على الأرض المراح المخضل ربيعاً دائماً.. في الوادي ازدانت الكهوف بهدب الشمس.. وتألقت على رَفِّ البيارق العمونية.. وتباهت بابتسام الأخضر الممتد حقولا وخمائل.وتنتشر في طرق عراق الأمير الريفية أشجار التين والزيتون والرمان في لوحة طبيعية ساحرة حباها الله دهرا للمكان.. يوقظه الندى كل صباح.. ويسامره الشذى.. وتخبئ له الغيوم أسرار السواقي التي همست في دهشة عن نداماها مند الأزل.. وكيف كان وِرْدُهم مُعمّماً بالغار وشجر الصنوبر.. وكيف كانت جداول الخير تطوق نحر الديار.. فقد كان الماء سراً من أسرار القصر.. البركة المجاورة بحيرة أبدعها معماري من البيادر لِيُسكِن كل قطرة ماء منها تربة الوادي.. وما النوافير التي تخرج الماء من أفواه الأسود.. سوى اللهفة قبل الرحيل.. وتغليظ الحلف ألا تنسكب في غير أفق المكان.. فتلفلفه حوريات الجداول بالدحنون والزيزفون ترد له روحه فلا حرن ولا شرود.وعراق الأمير هي لحظة تلاق عبقرية.. بين سحر النضارة.. وعبق الحضارة.. فحين يكون القصر مركز الأفق الممتد تهرول حكايات المجد العموني في مروج الوادي الأخضر.. وتنتشي النفس وهي تسترق اللحن الذي تعزفه الجداول.. تهفو توقاً لطوبيا وهيركانوس وكل العمونيين الذين ارتووا من سلسبيلها.. وتلذذوا بطعم التين في الصباحات الندية.. وبمذاق الزيت وقد تهطل من زيتونها المبارك.. فماذا تركت الطبيعة في عراق الأمير من التبسم والنضارة لسواها؟..ترى أكان ملك العمونيين «عمو ندب» قد نقش على قارورته في «تل سيران» سيرة هذه البيادر وواديها وما فيها من خير وجنان.. وما تخبئه حجارتها من ذكريات تكتب صفحة مشرقة في سفر الخلود الأردني.. فعلى مسافة كيلو مترات قليلة بين الحداثة والتاريخ.. أمام هيبة الوطن نقرأ سفره منذ بدايات التكوين عن الغد الطافح بالأمل.
قرأت لك .. ناعور ..عبدون .. عراق الأمير
12:00 4-2-2015
آخر تعديل :
الأربعاء