د. نزار جمال حداد
رئيس الاتحاد النوعي للنحالين الأردنيين
مدير مديرية بحوث النحل – المركز الوطني للبحث والارشاد الزراعي
عناق وتحيات حارة في صالة المطار، فالفراق زاد عن عشر سنوات، حيث كان اللقاء الأخير أثناء دراستي في بلاد الغربة مع هذا الصديق الأعجمي. جاء بعدما جمع تحويشة عمره مع زوجته ليزورني وعائلتي في الأردن. استقلينا السيارة نحو المنزل، فالضيف عزيز ورفيق درب في الغربة. تعارفت زوجاتنا.
في اليوم التالي تناولنا قهوة الصباح ودار حوار حول ما سنقوم به أثناء زيارتهم.وإذا به يستل من إنه ذات الكتاب الذي أهديته إياه قبل عشر سنوات عن السياحة في الأردن وقد أنهكه قراءته وتقليب صفحاته، وفتح الكتاب على صفحات تحكي عن وادي رم، قائلاً: «أهم شيء أن نذهب إلى وادي القمر، فهو أعظم مكان في العالم يستطيع أن يُقِرَّ فيه الإنسان بضعفه أمام عظمة الخالق». لم أعترض على اقتراحه، فالمكان بحق يلهجُ بنفحاتٍ صوفيةٍ، ويمتاز بهدوءٍ منقطع النظير.
شددنا الرحال نحو وادي القمر، وطوال الطريق وصديقي روبرت، مهندس الكيمياء الجيولوجية، يشرح لنا عن أهمية وادي رم قائلاً: هل تعلم أنَّه عندما تشكّلت القارات، غمرت مياه بحر تيثس القديم Tethys هذه البقعة من الأرض؛تكونت فيما بعد الرمال والصخور الرملية الوردية في البتراء ووادي رم. ومن ثم أخذ يشرح عن أنماط الألوان المتدرجة على سطوح بعض الصخور الرسوبية الناجمة عن الأملاح المعدنية في المياه التي غمرت الوادي والبتراء.وتناول في شرحِهِ أمورا تتعلق بالصخور التي تشبة الاسفنج واخرى تشبه الفطر وما يعرف بطلاء الصحراء والذي يبدو وكأنه لوحة رسمت بيد فنان ماهر، وأشعره طوال الطريق يتحرق شوقا نحو وادي رم.
وصلنا وادي رم واستقلينا سيارة دفع رباعي،وبين الحين والآخر يتوقف بنا السائق ليشرح لنا تفاصيل كل مشهد يصادفنا، هذه «أعمدة الحكمة السبعة»كما أسماها لورنس العرب؛وهذه جبل يصل بعضها في إلارتفاع 1800 متر، وهذه كهوف سكنها المحلييون في فترة من الزمن.وبينما نحن سائرون،مررنا بصخور تضفي على المشهد حالة من السريالية، ثم دنونا من سفح هضبة مرتفعة من الكثبان الرملية. توقف السائق وتحدث قائلاً: استمتعوا !!..معكم ساعة من الآن، وابتعد.
لم ولن تجد أجمل من اللوحة التي تقف أمامها وتنخرط بها.تغوص قدماك في تبر.. إنها رم التي تكاد تحسبها ذهبا خالصاً وهي تتقمص لون شمس الغروب. تقف أمام لوحات أخفَت وراءها أسرا، فَعَصَت عن سبرها، وهالات من السكينة تُكلِّلُ المشهد تبدو لوحة تجريدية،طبيعية، غامضة. بحر من الحيرة يعانق شواطئ الرمال والصخور، ولا ترى خط الشفق الفاصل بين الأرض والسماء، والشمس تغوص بهدوء في أعماق بحرالرمال. قشعريرة تسري في جسدك تلهمك بأنك عند الحد الفاصل بين الحياة و الموت.
في حضن بحر الكثبان الرملية، وبين ثنايا أمواجه، تقف منذهلا وفي سكون تام أمام شيء حيّ صغير أخضر يبرز كأنه شراع سفينة صغيرة، غرسة صغيرة تبهر الناظرين بارتفاعها الذي لا يتجاوز نصف المتر. غرسة فتية، يافعة، تقارع الموت من أجل الحياة، وكأنها رمح أخضر اخترق درع الرمال الأصفر.
غابت الشمس، وعدنا أدراجنا إلى المخيم. وبعد استمتاعنا بالزرب البلدي، والفلكلور الأردني، وأغاني السامر والهجيني، وخلال فسحة الزمن المخصصة لاحتساء القهوة العربية المغلية على جمر الحطب-سألت زوجة صديقي عن ذاك الغصن الأخضر الصامد. إبتسمت زوجتي، فهي قد سبق وأخطأت عندما سألتني مرة عن هذا النبات في رحلاتنا السابقة الى رم، وهي تعلم علم اليقين أن الإجابة على هذا السؤال ستصبح موضوع السهرة. ومن بين ما قلت: إنها شتلة صغيرة لشجرة الغضا / الغضى (Haloxylon) . وهو نبات قاهر للكثبان الرملية بجدارة وبيئته في الأردن هي وادي عربة، ووادي رم، والبترا، وصولاً إلى أعتى الصحاري في الربع الخالي في شبه الجزيرة العربية حتى دول غرب أسيا. والغضا شُجيرة صغيرة مُعمّرِة يصل ارتفاعها إلى أربعة أمتار، وتُثَبِّت الترابَ و الكثبان الرملية بطريقة عجيبة. فهي تضرب جذوراً عميقة جداً تصل إلى عشرات الأمتار تحت الأرض؛ بحثاً عن الماء في بحار الرمال. كما تفرز الجذور مواداً تجعل حبيبات الرمال المتناهية في الصغر تلتصق بهذه الجذور.وبتبادل مد وجزر بحر الرمال عليها ترتقي فوق كُثيّب منها يُسمّى «النَّبَكَة الرملية». وبإشتداد عودها تصبح شجرة الغضا جزيرة حياة في وسط بحر الرمال، فتجد الأرانب والثعالب والخنافس والزواحف موئلاً لها، وكأنها تؤدي مهام فُلك سيدنا نوح في عرض الصحراء.
والغضا يتحمل الجفاف بشكل عجيب، فيكفيه ما يهطل من المطر حتى أقل من 50 ملم سنويا. ويتحمل تُرب فقيرة بالعناصر الغذائية. ويتحمل درجات حموضة وملوحة التربة المختلفة. ولكن بعضها تتعرى جذورة بالكامل نتيجة الرياح الشديدة، فتصبح مكشوفة تلفحها شمس الصحراء وهواؤه الجاف، مما يجعل النبات ينشف ويموت، لتصبح بذلك الحطب الذي عشقه شعراء الصحراء، وتغنوا بشدة حرارة جمره، كما فعل أبو العلاء المعري حين قال:
جربتُ من نارِ الهوى ما تنطفي نـارُ الغضا وتكلُّ عما تحـرقُ
ومالك بن الريب حينما أنشد، قائلا:
ألا ليت شعري هــــــل أبيتــن ليلــة بجنب الغضا أزجي القلاص النواجيا
فليت الغضا لم يقطع الركب عرضهوليــت الغضا ماشى الركـاب لياليـــا
وليت الغضـا يوم ارتحلت تقاصرتبطــول الغضا حتى أرى من ورائيــا
لقد كان في أهل الغضا لو دنا الغضامزارٌ ولكـــن الغضــا ليـــس دانيــــا
وعدت إلى وصف النبات، وقلت: طعمه شديد الحموضة، ويأكله الماعز والمها العربي وبعض الحيوانات المجترة البرية. وتَعتبر بعض الدراسات العلمية أن الخواص العلاجية لحليب الإبل التي تناولت الغضى من أكثر أنواع الحليب جودة. وساق النبات سميك، لكن الأفرع الحديثة تكون رفيعة خضراء، تقوم بعملية التمثيل الغذائي، وبتقدم عمرها تتحول الى اللون الأشهب المبيض.وأوراقه حرشفية قليلة العدد، وقصيرة، لا يتجاوز طولها1.5 سم. أما الأزهار فهي صغيرة ويراوح قطرها 8 مم ولا رائحة تذكر لها، وتتفتح في ذيل كل عام والثمرة فصغيرة جداً. ويستخدم نبات الغضا في إعادة تأهيل المراعي وتشجير مناكب الطرق الصحراوية.
ما أن إنتهت إستراحة القهوة، حتى شعرت أنني أثقلت على الضيوف بإجابتي الطويلة، إلا أن الطريف في الأمر أن مغني السهرة تناول آلة العود، وداعب أوتاره ليسمعنا أغنية شجية، تقول كلماتها:
جمرة غضى ...............اضمها بكفي
أضمها حيـــــل
أبي الدفا .....لوتحترق كــفـــي
وأبي سفر لليـــل
بردان أنا تكفى .......أبي أحترق بدفا
لعيونك التحنان.......فعيونك المنفى
جيتك من الأعصار ....جفني المطر ...و النار
جمرة غضى
[email protected]