د. كامل جميل ولويل
كان من قدري ان اعمل في مجال التربية والتعليم والمعارف مدة طويلة، وكان من قدري ايضاً ان اعرف شيئاً ما عن مناهج هذه المادة في العراق والاردن والكويت، وكانت مناهج الاردن والكويت في مطلعها متأثرة بالمناهج المصرية، وربما كانت فلسطين في الاربعينيات والثلاثينيات اكثر البلدان العربية تأثراً بالمناهج المصرية، ليس هذا الذي ذكرته عن تعليمي او تعلمي هو غرض الكتابة او المقالة، انما سحب واقع هذا التعليم ذهني الى الآية الكريمة «والضحى والليل اذا سجى»، اليست هذه الآية نصاً لغوياً، اليست نصاً ادبياً اليست نصاً بلاغياً؟» بلى كانت وما زالت تحمل هذه الصفات كلها، فان عالجتها لغة تبين لك ان الكلمة الواحدة لها معنى قوي في هذا الموضع لا تنوب عنه كلمة اخرى، وان عالجتها كنص ادبي ألفيت الذوق الادبي بنعومته او شدته بالغ التأثير، وان اردت البلاغة أي استعمال الكلمات على غير لفظها العادي وجدت القارئ ينفعل ويتأثر من الصور التي خرج النص لأدائها..
اني لم اجد في البلدان الاربعة التي ذكرتها بلداً يجعل النص القرآني نصاً للدراسة اللغوية او الادبية او البلاغية، لقد اكتفت المناهج بتدريس قصيدة عنترة بن شداد في حبه لأبنة عمه، او قصيدة عمرو بن كلثوم في مدح قبيلته بني تغلب، او نقائض جرير والفرزدق وما تداولاه من شتم وسب وذم، او المتنبي في مدح سيف الدولة مرة ومدح كافور مرة اخرى او غير ذلك من القصائد والخطب والشعر والنثر، لم ادرس النص القرآني مع هذه القطع الشعرية او النثرية، وانت اذا قست اهداف ذلك الشعر او النثر بأهداف كتاب الله تجدها كالهباء المنثور، واذا قارنت الكلمات الواردة في شعر احمد شوقي او حافظ ابراهيم او عبدالصبور شاهين او محمود درويش او البياتي بالكلمات القرآنية فانك ستذهل انك ضيعت شيئاً كثيراً من منافع اللفظ واستعمال الكلم العربي الفصيح واذا رغبت في الاساليب والتأثير وقرأت ما يطير له عجباً قراء الشعر الحديث ثم نظرت الى الاساليب القرآنية في وصف جنات الدنيا او عقائد الناس، او لحظات القتال او الحوار او وصف شدة البعث والمواقف المذهلة في يوم الحساب، اذا رغبت في ذلك فانك ستدرك ان الذي يرفعك بلاغة وتأثيراً هو فهمك لهذه الاساليب، ارجو ان ندرس القرآن لغة وادباً وبلاغة كما ندرس تلك القصائد والقطع النثرية سيظهر الفرق في سموك اللغوي والادبي والبلاغي في سنوات قليلة.
افرض اننا نريد ان ندرس «والضحى والليل اذا سجى، ما ودعك ربك وما قلى»، لانريد ان نتجاوز هاتين الآيتين الى السورة كلها، جاءت الواو للقسم بالضحى، ثم جاءت الواو للقسم بالليل، اذا اظلم وسكن، واو القسم تفيد التعظيم، والمقسَمُ به في هاتين الآيتين شيئان ماديان وهما واقعان ملموسان، فالناس يشهدون تألق الضحى بضوئه الساطع، وكذلك يشهدون الليل اذا اظلم وسكن، وهذا شيء عادي في المشاهدة، ولا يظن احد ان الليل تخلى عن النهار او العكس، اذاً لا عجب ان تأتي فترة سكون الوحي او فتوره، ثم يأتي بعد ذلك نور الوحي والتجلي العظيم على النبي المصطفى، هذا هو التفسير البياني للقسم بالضحى والليل اذا سجى، كأن الآيات تقول: هناك ساعات في الزمن لشيء ما وشيء آخر، فلا يجوز ان يتعجل الناس ويقولوا انقطع الوحي، ولا قلى، ولا ودّع، ان الله تعالى آتى الرسول ما يكون في شوق اليه وقد ثبته بالوحي، وجاء القسم العظيم ليظهر قرب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من ربه عز وجل..
