مفلح العدوان - لم يتسن لي مشاهدة «الديكتاتور» بنسخته الذكورية، إلا مرة واحدة، وبالتأكيد هي ليست في عام 1969م، حيث أداه كل من الفنان انطوان كرباج والفنان ميشال نبعة)، بعد عام من كتابة المسرحي والشاعر وكاتب المقالة السياسية عصام محفوظ، هذا العمل في سنة 1968م.. تلك المرة كانت في السنة الماضية، وفي تشرين الثاني/ نوفمبر 2012م، حيث شاهدت الديكتاتور بنُسخة ذكورية، في مهرجان المسرح الأردني التاسع عشر، من اخراج الدكتور محمد خير الرفاعي، وأداء فنانين من الأردن (عمران العنوز وعبد الله عبيدات)، وقد كنت قرأت عن مشروع المخرجة لينا أبيض، وفق رؤيتها، بتقديم (الديكتاتور) تحت عباءة «تاء التأنيث»، ليكون باكورة أعمال فرقة «بيروت الثامنة والنصف»، وتكون فيه استعادة لذكرى عصام محفوظ بعد 6 سنوات على وفاته، و44 سنة على كتابة «الديكتاتور».
النص المكتوب.. عصام محفوظ
ها قد اتضحت الصورة أكثر: النص المسرحي الأدبي مقروء، بديكتاتوره، وخادمه، والعرض المسرحي مشاهد بنسخة الديكتاتور/الرجل، وعرض آخر بنسخة الديكتاتور/امرأة، وفي كل الأحوال: الديكتاتور هو الديكتاتور.
إنهن ثلاث نساء، آمنّ بالفكرة، وسرن على خطى الإبداع، والتقين على خشبة المسرح (المخرجة: لينا أبيض. الفنانة جوليا قصار. الفنانة عايدة صبرا)، ليتحقق هذا العمل، وتتم استعادة الديكتاتور وخادمه، في ظروف مختلفة عما كانت فيه لحظة الكتابة عام 1968م: آنذاك.. في بيروت، كان الكبير عصام محفوظ، وكان العرب يرزحون تحت ثقل نكسة 1967م، والعالم كان مشغولاً بربيع براغ، وحركات التحرر، والثورات العمالية والطلابية في غير مكان فيه، بينما الواقع العربي يفرز جنرالات الانقلابات.. ضمن معايشة، ومشاهدة، هذا الفضاء المحيط كتب عصام محفوظ مسرحية «الديكتاتور».
لحظة الأُفول.. واللحظة الراهنة
ويأتي في عام 2012م ثالوث «تاء التأنيث»: (لينا، جوليا، عايدة)، للدخول في التجربة مرة أخرى، المغامرة، الاستعادة لـ»الديكتاتور»، تحت قناع المرأة هنا، والآن، حيث يظهر من ذاك الجيل الذي عايش ديكتاتور الستينات، من يقف أمام الشاشات، ويتحسس شيب رأسه، قائلا: «هرمنا.. هرمنا.. ونحن ننتظر هذه اللحظة التاريخية»..
إذن: لماذا تعود المخرجة، الفنانة، لينا أبيض إلى الديكتاتور الآن، وفي سنوات الثورات العربية، وكأن هناك خوفاً، كما خوف سعدون في المسرحية، من استمرار زعامات متكررة، أو من ديكتاتوريات أخرى، تحت أقنعة مغايرة، وضمن مبررات أخرى، تعيد الدورة إلى حالتها التي كانت عليها أمس؟
نعم هنا ثورة، ولكن، أيضا، هناك من يركب الموجة، ويصادر الثورة بدعوى حماية الشعب.. وربما يجوز، أيضا، أن يكون هذا التعبير عن هذا الخوف، والحذر من الواقع الجديد، خاصة وأن سعدون صارت لديه خبرة بنفسية، وتقلبات، وأوهام الديكتاتور.. هو سؤال مشروع: هل يمكن أن تعيد هذه الثورات، ذاك الديكتاتور، بصورة أخرى، أو بزي آخر: سلطة الدين مثلا، سلطة اللاحوار، أو الإستثار، وإن كان هذا تحت سياقات ديمقراطية الخيارات المحدودة.. وسعدون حالة خوف دائم، ورعب من تصور عودة هذا الديكتاتور، وقد صارت له خبرة فيه؛ فهو قادم، ولكنه يغير بزته؛ مرة وهم صندوق اقتراع، ومرة عمامة، ومرة دبابة، وكل الاحتمالات واردة، ولذلك فإنه وفق هذه المخاوف يكون مبرر استحضار هذه المسرحية في اللحظة الراهنة.
وفي لحظة أفول نجم «الديكتاتور»، القديم، لعله من الذكاء أن يقدم الديكتاتور، الآن، بشكل آخر، وهنا نقطة تحسب لثالوث تاء التأنيث، في هذا العمل، في سياق الحديث عن «كوريدور»، اعادة ترتيب السلطة، وتزويق هندامها، بصيغة أخرى، يكون فيها «سعدون» جديد، يقبل بلون آخر لبدلة الديكتاتور وجزمته.. وهنا يكون في هذا العمل تحول صيغة الديكتاتور في قشرته، تجنيسه فقط، وليس في جوهره، من صيغة الرجل إلى المرأة، لإضفاء صفة الديكتاتورية الناعمة، كما هي صيغة الأمن الناعم، الذي يروج في ديمقراطيات الوطن العربي، إلى حد معين، ويبقى الديكتاتور يترقب الجماهير!!
«السيد.. والعبد»
حين القراءة الأولى للنص، وكذلك المشاهدة للمسرحية، يظهر الديكتاتور، ومعه سعدون، وهناك ملك الغائب، وشعب بعيد خلف جدران الغرفة، ومساعدو الجنرال/الديكتاتور، بتصفياتهم لبعضهم.. ويظهر جدل الجنرال وسعدون، وفيه تداعيات تذكير بـ»حوارية السيد والعبد»، السومرية، وهناك انقطاع الهاتف والاتصال، والطَرق/الوهم على الباب، حيث «الجنرال لا يجد من يراسله»، كما عند جنرال غابرييل ماركيز.. وتلك الحروب الوهمية، والفتوحات المزعومة، والموافقة المذعنة من سعدون، التي فيها تجليات من روح الدون كيشوت وخادمه سانشو.. وفي كل الأحوال، لا فرق فالأدوار متشابهة، والديكتاتور واحد، وإن تعددت أشكاله، عبر الزمان، والمكان.
ثم هناك بناء قائم على الوهم.. كما أنه عبر النقد للثورة.. هناك نقد للذاكرة القديمة.. فالديكتاتور هو قائد الثورة الذي لم يرق نقطة دم واحدة لكن من معه لم يبق منهم أحد، وهو ينتظر ويوجه بجوار الهاتف..
حتى الثورات بعيدا عن رحم الشعب فيها وهم، ونبذ.. الديكتاتور هو حالة اجتماعية هنا، بقدر ما هو حالة سياسية قمعية..
السيد والعبد سجينان غرفة/زنزانة/قصر، واحد، مثلما الديكتاتور مرتبط بجزمته، وعرجه، ووهمه، فإن التابع/ الخادم/ سعدون، هو جنس حائر، مطيع، ساخر، حذر، متواطىء، وله قدرة على الإيهام، حتى تصل الحالة من البطش بالشعب بانتظار أن يسلم الملك نفسه، وحين لا يأتي يتهم الديكتاتور أن خادمه هو الملك، فتنقلب الصورة، حالة انفصام هنا، تغير المواقع، سلطة وهم جديد، ويكون القتل أيضا حتى لهذا الوهم.. ولعل الملك الغائب هو حاضر في كلتا شخصيتي السيد والعبد، الديكتاتور والخادم، مع أفكار أخرى متعلقة بالعبودية، وبالتسلط، وبالخوف، وبالتبعية، وبكل تلك التناقضات الداخلية، ولكن وهم الملك هذا في داخل تلك النفوس أحيانا يقمع، في الحالة الأغلب، ليكون النموذج الأعم، هو سعدون، الضحية، وأحيانا يتغول، ويطغى، كما في حالة الديكتاتور/ الجنرال!!
هندسة الفراغ
على خشبة المسرح سحر.. هناك إحساس بتكامل بين الإخراج والتمثيل، ربما هي مغامرة مشتركة، بحكم خبرة، وقوة حضور الثلاث فنانات، فهن في مركب واحد، عمل واحد، وأعتقد أن المخرجة مع فريقها لم تمارس سلطة الديكتاتور، لكن ربما كل واحدة منهن، تحملت المسؤولية اتجاه خلق حالة متكاملة من الاقناع، وقوة الأداء، وتوظيف حركة الجسد، والاستغراق في التعبير، والدخول في الحالة، عيشها، تلبسها، ذلك أن اعتماد المسرحية في كل تفاصيلها على حركة الممثلتين، وأدائهما، في ظل ديكور بسيط، فقير، متقشف هو ستة مكعبات بيضاء (تم استثمارها بدقة على الخشبة: كرسي الديكتاتور، سرير، منصة للخطابة،..)، وأربع مرايا (حالة المكاشفة مع الذات، النظر إلى الداخل، التداعيات النفسية، مواجهة الأنا بشبكة تعقيداتها) .. السينوغرافيا بسيطة هنا، وهي بدون مؤثرات.. هناك حضور دلالي قوي للهاتف، المقطوع (هذا مرتبط بشكل عضوي بالخادم سعدون/ مقيد به)، وكذلك الجزمة التي تسبب العرج للديكتاتور، لكنه حريص على تلميعها، ولبسها في قدمه اليسرى، وأيضا تلك البزة الجنرالية التي لها دلالات عميقة مرتبطة بالديكتاتور.. وما عدا ذلك فالعامل الأهم هو التمثيل على الخشبة، فقد استطاعت المخرجة، أن تؤثث الخشبة، من حركات الممثلتين، هندسة مدروسة لهذا الفراغ بحيث يتم تعبئته بالدلالات والرموز والعلامات يشكل فيه جسد الممثلتين قيمة عليا، وحضورا طاغيا، فيه يكون للأنفاس دلالات حاضرة، وللحركة معان وتداعيات، وللأصوات، والانفعالات.. هي كلها تحمل رسائل، ضمن حالة من التكامل بين جوليا وعايدة، بين الديكتاتور وسعدون، هي حالة واضحة من الخبرة في التمثيل، وتشرب الفكرة، ووعي اللحظة المؤداة.
الرقيب.. حينما في الأعالي!!
ربما لا بد، هنا، من إشارة سريعة إلى الرقابة، على هذا العمل، الخطير، حيث أن ديكتاتور 1968م، المكتوب آنذاك، تغير الاسم فيه من الجنرال إلى الديكتاتور، بعد تدخل الرقيب، وهنا أيضا، هناك تسلل لرقيب عام 2012م، معترضا على ما كان مكتوبا بصيغة «جزمة جنرالية»، لتصبح «جزمة ملوكية»، وربما هذه اللقطة وحدها، تجعلنا نقف بتقدير أمام فريق العمل، ثالوث تاء التأنيث «لينا، جوليا، عايدة»، لنتساءل كلما شاهدنا العرض مرة، ومرات، ترى هل سقط الديكتاتور، وهل انتفض سعدون حقيقة على الواقع المتراكم منذ أسطورة البدء.. منذ.. «حينما في الأعالي لم تكن الأرض أرضا، ولا السماء سماء».
* ورقة تقييمية تم تقديمها في مهرجان المسرح العربي الذي عقد في الدوحة في الفترة (10-16 كانون الثاني 2013م)، خلال الندوة التطبيقية لمسرحية الديكتاتور من اخراج لينا أبيض، وتمثيل كل من الفنانة جوليا قصار، والفنانة عايدة صبرا. وقد فازت هذه المسرحية بجائزة المهرجان.
[email protected]