د. كامل جميل ولويل- لا يوجد الان لغة في العالم تعتمد في بيان معانيها وافكارها على الحركة الا اللغة العربية, فظاهرة الحركات ركن ثالث في معرفة معاني لغتنا الجميلة والدقيقة, والحركات هذه كأنها تقوم مقام اللفظ أو مقام المعنى في ادراك الافكار, فالفكرة لا تفهم الا باللفظ كما في قواميس اللغة ومعاجمها, والمعنى الذي نأخذه من اللفظ, ثم الحركة التي لها تأثير مباشر في بناء الكلمة أو تبدل معناها, انظر لهذه الكلمة: عَلِمَ, فهي تختلف عن عِلْم, وتختلف عن عُلم, وسبب الخلاف هذه الحركات البنائية, فقد سموها البناء لانهم شبهوها بالحروف التي تبني الكلمة وهي: العين, واللام, والميم.
وانظر الان للآية الكريمة: فريقاً كذبوا وفريقاً يقتلون, لو قرئت فريق كذبوا وفريق يقتلون لصار لدينا معنى آخر, فالحركة التي اختلفت جرّت معها اختلاف المعنى, اما في النصب فإنا نأخذ هذا المعنى: إن اليهود كذبوا جماعة من الرسل, أو إنهم قتلوا جماعة من الرسل, ولكنك ان رفعت فقلت (فريقٌ) فقد ذهبت الى معنى آخر, وهو أن هناك فريقاً من اليهود أي مجموعة منهم كذّبت الرسل وليس جميع اليهود, كما تعني الثانية أن جماعة من اليهود وليسوا جميعهم قد قتلوا الرسل, هذه الحركات التي تقع في آخر الكلمة سمّيت حركات اعرابية, لأنها تتغير من حالة الى حالة وتوضح ظلال المعاني, فأعرب الشيء أبانه وأعرب عن نفسك أي اظهر ما تريد وهكذا.
ضرب أحد النحويين مثلاً جيداً في اختلاف هذه الحركات التي تقع في اواخر الكلمات وهو: أكرم الناس احمد, ثم غيّر الحركات في عدة جمل كما ترى:
1- اكرَمَ الناسُ احمدَ 2- اكرَمَ الناسَ احمدُ 3- أكرمُ الناسِ احمدُ 4- أكرِمِ الناسَ احمَدُ, وهذه المعاني مختلفة, ولكل جملة هدف, الجملة الاولى نعرف منها أن الناس هم الذين اكرموا أحمد, وأما الثانية فعكس ذلك, وأما الثالثة فإنها تجعل احمد افضل الناس جميعاً, وأما الرابعة فهي تأمر احمد أو تناديه بأن يكرم الناس, لقد تنوعت المعاني كثيراً في هذه الجملة, ولكن لفظها واحد, فالكلمات الثلاث أدت الى عدة معان بسبب اختلاف الحركات الاعرابية عليها. لقد قرأت في سورة المائدة في الآية الكريمة 60 «وعبد الطاغوت» بفتح كلمة (الطاغوت), فالمعنى عندئذ أن ذلك في الانسان عبد إلهاً غير الله سواء أكان الشيطان أو المال أو المخلوق, ولكن اذا قرئت الآية (وعَبَدَ الطاغوتِ) بكسر التاء يصبح المعنى أن هناك طائفة متخصصة بعبادة غير الله, إن هذه الحركات ركن تتميز به العربية عن سائر اللغات وهو لسان فذ يتسع لكثير من المعاني.