د. كامل جميل ولويل-يوجد في العبارة القرآنية «إني جاعل في الأرض خليفة» أشياء من اللغة، وقد جُذْبتُ لهذه الأشياء في تلاواتي القرآنية جذبا طيبا، ولكني تعلقت بها اكثر عندما اسمعني صاحب مكتبة المأمون في العبدلي محاورة مسجلة من جهازه في مكتبته بين الدكتور الشيخ عبدالصبور شاهين، والدكتور الشيخ زغلول النجار، وقد تستطيع أن تصف الأول بأنه لغوي بلاغي، وأما الثاني فهو عالم فلكي، وكلاهما يحاول الربط بين نصوص القرآن الكريم وما لديه من مادة علمية.
الدكتور عبدالصبور، رحمه الله يرى أن كلمة (خليفة) تدل على أن آدم مسبوق في سكنى الأرض، وان هناك بشراً آخرين قبله، إن المعنى اللغوي الظاهر لكلمة خليفة هو الذي قاده لهذا الرأي، وأمّا الدكتور زغلول – أطال الله عمره وأحسن عمله – فهو يرى أن آدم غير مسبوق بآدم آخر، وأن الجينات الوراثية وصفات الوراثة ظلت تجري من آدم إلى نسله إلى أن وصلت إلينا، فالأعضاء، والغرائز، والمحدودية، هي ما كانت لآدم وهي ما كانت لنا في القرن الحادي والعشرين، وان الآيات القرآنية تشير الى آدم وحواء وخروجهما من الجنة وتوبتهما ثم الاستقرار في الأرض.
ما موقفي من هذا؟ إني أعطي لكل قدره، فعالم اللغة على العين والرأس وعالم الفلك على العين والرأس ولكني مِلتُ بعد شيء من البحث والتدبر الى رأي الدكتور العالم زغلول النجار، كيف حدث ذلك؟
لقد احسست ان كليهما لم يفتح المعاجم ليقرأ ما كتبه اللغويون عن معاني كلمة خليفة، كما احسست ان كليهما لم يهتم بالتركيب النحوي للجملة القرآنية «إني جاعل في الأرض خليفة» ولو انهما نظرا في ذلك لكانت المقاربة بينهما اشد وألطف.
كلمة خليفة في اللغة وردت بعدة معانٍ، ونحن في فهم القرآن الكريم علينا ألا نكون عجولين فنأخذ بأقرب معنى نعرفه أو يتداوله الناس، علينا أن نختار المعنى المناسب للموقع المناسب، ان كلمة (مؤمن) في القرآن تأتي بمعنى أو بمعانٍ تناسب المواقع، فهي مرة اسم من أسماء الله، وهي صفة مرة أخرى لمن آمن بالشهادتين ونطق بهما وهي في مرة ثالثة لها معنى لغوي استعمله العرب قبل الاسلام وهو من يُصدّق ما يسمعه كما هي في سورة يوسف «وما انت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين»، وكلمة خليفة وردت في القرآن بمعنى (السلطان)، واهل اليمن يسمون المنطقة الكبيرة ذات الشأن (المخِلاف) وقال الفراء منشداً:
أبوك خليفة ولدته أخرى
وأنت خليفة ذاك الكمالُ
ولم تبخل معاجم العرب علينا بهذه المعاني، فالزجاج وابن سيده وغير الزجاج وابن سيده ذكروا أن الخلافة هي الامارة، والانسان الخِليف هو كثير الاعمال المهمة، والخليفي كمصدر هي كثرة الاعمال المهمة، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لولا الخليفي لأذَنتُ، وكلمة خليفة أولى في الاستعمال في الآية من كلمة سلطان،لان كلمة خليفة تشمل السلطان والتسلسل ولذلك جاءت الكلمة المناسبة للمعنى المناسب، كما جاءت كلمة (جاعلٌ) لتدل على ان هذا الفعل جديد غير مسبوق، ولذلك كان تساؤل الملائكة غير صحيح، فقال سبحانه «اني اعلم ما لا تعلمون» لهذا السلطان على الكرة الارضية تعمير وبناء وعبادة، نعمت هذه اللغة الواسعة الشريفة.