كتابة وتصوير: مفلح العدوان - القصة بدأت قبل سنتين.. آنذاك كانت أولى حلقات ديوان الضيغم تنشر في صفحة «بوح القرى»، وكان الهدف منها جمع ما تيسر من الذاكرة الشفوية، لإرث أدبي، انساني، شعري، تحفل به بلادنا، ولكنه غير مكتوب، رغم أنه متداول في ذاكرة الناس، ومحفوظ في صدور الكبار منهم.
كانت هذا التوجه من «بوح القرى» يحمل رسالة لتحفيز من يملك رواية حول جانب من القصص الشعبية، والملاحم التراثية، أن يبادر لتدوينها، ونشر جانب منها في «بوح القرى»، وربما تكون مبادرة الأستاذ سليم الياس حداد (أبو مازن)، هي الأنجح، والأكمل، حيث زودنا بحلقات متسلسلة حول «ديوان الضيغم»، هذا الموروث الشعبي المعروف كثيرا في بوادينا، وأريافنا، ولكنه غير متاح بين دفتي كتاب، وهذا ما استطاع أن ينجزه، بجهده، ومثابرته، وجديته، وحبه لهذا التراث، مع اخلاصه له.
الفكرة.. الكتابة
بين يدي كتاب «ديوان الضيغم»، لكاتبه الأستاذ سليم الياس حداد، حيث صدر بدعم من وزارة الثقافة. وعلى مساحة 57 صفحة، يروي أبو مازن تفاصيل ديوان الضيغم، هذه الملحمة التي نشرنا جانبا منها في بوح القرى، وهو في مقدمته للكتاب يشير إلى مبادرته الطيبة في نشر الملحمة في صفحة بوح القرى، وفي هذا السياق يقول أبو مازن «كم راودتني فكرة طبع ديوان الضيغم، كما يسمونه مجازا، ليبقى إرثا للأجيال من بعدنا، وكم كانت تلح علي هذه الفكرة ولكنها مع ذلك لم تترجم إلى عمل، وبقيت تروح وتجيء وفقا لظروف اجتماعية وحياتية أو ما شابه ذلك، ولم أع على نفسي إلا وقد دخلت بوابة الثمانين من عمري دون أن أعمل شيئا، إلى أن قيض الله لي يوما وقرأت ذكرا لهذا الديوان على صفحة (بوح القرى) من ملحق أبواب، من جريدة الرأي، فأيقظت الكلمة التي قرأتها، على بساطتها، جميع حواسي، وأمسكت قلمي، وكتبت رسالة إلى السيد مفلح العدوان على العنوان المثبت على الجريدة، وهو المعني بهذا الذي قرأته، محاولا تصحيح ما جاء به من خطأ، وانتظرت طويلا، ولم أحصل على إجابة، إلى أن اتصلت هاتفيا، وتمخضت المحاولة عن دعوتي له بزيارتي، ولبى الدعوة مشكورا، ولما سألته عن رسالتي نفى أن يكون قد وصله مثل هذه الرسالة، وبما أنني أرسلتها بالفاكس، وبقيت النسخة الأصلية عندي فقد لاحظت أنه سر بها عندما قرأها، وبدا لي كمن وجد ضالته عندي، وطلب مني كتابة أربع حلقات من الديوان تباعا، وتم نشرها بنفس الجريدة، وبعدها تحدثت معه بشأن كتابة الديوان كاملا وتوليفه ككتاب كامل فوافق وبارك الفكرة. إن زيارة السيد مفلح العدوان لي ولو أنها بدت زيارة خاطفة وسريعة، إلا أن الاهتمام الذي بدا على وجه الأخ مفلح العدوان عندما قرأ رسالتي السابقة المشار اليها أثار اهتمامي أكثر فأكثر لإتمام المشروع مهما استحق من تعب وعناء نظرا لأهميته كما نوه لي بذلك».
حديث النهايات
نحتفي في «بوح القرى»، بصدور «ديوان الضيغم» للسيد سليم الياس حداد (أبو مازن)، ونحن فرحون بهذا المنجز، ولذا فإن احتفاءنا بالكتاب سيكون من الكتاب ذاته، وهو هدية لمتابعي «ديوان الضيغم» على صفحات «بوح القرى»، حيث ننشر هنا الحلقة الأخيرة التي لم ننشرها من الديوان، وفيها النهايات، وخيوط الخاتمة لعرب الضيغم، وما حدث للشيخ عرار في أواخر أيامه، وكيف وضع حدا لمأساته بعد أن أبادت السيول قومه.
تفاصيل النهاية، يرويها سليم حداد أبو مازن في كتابه «ديوان الضيغم»، قائلا:
«وفي أحد الأيام، بينما كان عرب الضيغم ينزلون على سفح أحد الجبال في أرض منحدرة، شاهد الشيخ عرار الجربوع ينقل أولاده إلى المرتفعات، ولم يكترث لذلك، فقد شاهد الفويهي أنثى الرتيلا (دويبه صغيرة تعيش في الصحاري) تنقل أولادها على ظهرها، وتصعد بها إلى المرتفعات، وقد حذر الفويهي الموجودين حوله قائلا لهم (انظروا انثى الرتيلا، لقد علمتها الطبيعة الإلهية كيف تحافظ على أولادها، وها أنا أحذركم بأن ذلك يدل على أن أمطار غزيرة وسيول جارفة قادمة وستجرف كل شىء في طريقها، وأقول لكم ارحلوا حالا إلى المرتفعات حتى لا تجرفكم السيول التي لا شك آتية، وبمحض الصدفة كان الشيخ عرار مارا وسمع ما قاله الفويهي قائلا له (أنت لا تتحدث إلا بالخراب)، قال ذلك واستمر عرار في طريقه، ولم يسمع كلام الفويهي الذي رد عليه بصوت خافت (والله انك ابن حرام)، ولكن التي سمعته هي والدة الشيخ عرار نفسها التي كانت خلف الفويهي وقريبة منه..».
المأساة
ينحى الحديث بعد ذلك منحى آخر، فيه تداعيات من قبل والدة الشيخ عرار، وقصيدة لها، لكنه يعود بعدئذ إلى التفاصيل التي تقود إلى الخاتمة التي حلت بالشيخ عرار، وعرب الضيغم، حيث يكمل أبو مازن، في كتاب (ديوان الضيغم)، حديث النهايات هذا بقوله:
«لم يمر إلا يومان والثالث على تحذير الفويهي حتى فوجىء العرب ليلا ببروق ورعود وأمطار غزيرة وسيولا جارفة تأخذ كل ما تجده في طريقها، وقد جرفت عرب الضيغم جميعهم رجالهم ونساءهم وأولادهم وكل ما يملكونه، ولم ينج منهم أحد سوى الشيخ عرار نفسه، والذي أنقذه من هذه السيول الحصان المشهور نفسه، وتركته هذه الزاحفة وحيدا يرقب ما حل بعربه في هذا الليل المظلم، وفي الصباح، وبعد أن هدأت العاصفة، وخفت السيول راح يمشي مع السيل لعله يجد أحدا حي من أهله، ولم تسفر هذه المحاولة عن فائدة سوى أنه فوجئ بولده الصغير عارف فاقدا الحياة وقد التفت جدائل شعره على شجرة رتم من الأشجار التي تنمو عادة على حواف الوديان، فأكب عليه وصاح بقلب منفطر (ولدي عارف، ولدي عارف، ماذا حدث لكم، كيف تركتموني وحيدا). وضم ولده إلى صدره وراح يبكي وينوح، ودفنه في مكان حيث لا صديق ولا رفيق. وبعد أن انتهى من ذلك عاد لوحدته وسكونه وراح يفكر ماذا عسى أن يفعل، فلم يجد من يأوي إليه سوى أولاد عمه الراشد، وشيخهم عمير بن راشد، وقد ارتاح قليلا لذلك، ووجد فيهم بارقة أمل تشبث بها قائلا (البل اذا هجت تهج على أهلها)».
«عمير يستقبل عرار»
يستمر أبو مازن في تتبعه لمأساة الشيخ عرار، وفي هذا السياق يقول:
«فركب (الشيخ عرار) حصانه ويمم شطر عرب الراشد، وقد وصلهم وقسما منهم يجلسون في قيلولة آخر النهار، وقد فوجئوا بالشيخ عرار مقبلا نحوهم راكبا حصانه المشهور، فاستغربوا ذلك لأن القلوب لا تزال ملأى، وبعض الجروح لا تزال تنزف، والصلح الذي عمله العبيدي فارس كان فقط عدم اعتداء وعدم غزو بعضهم البعض، ولهذا استنفر القوم وتساءلوا ما الذي أتى به؟ وما كان من الشيخ عمير إلا أن طلب منهم بكل وقار ورجولة، وبكل رباطة جأش أن قوموا واستقبلوا الرجل لأنه (ما جابه إشي هيّن)، فهبوا جميعا، واستقبلوه، وفرش له عمير صدر البيت، ونحر له، ورحب به، واحترمه دون أن ينبس عرار ببنت شفة. وعندما قُدم له الطعام (أكل من غير الخاطر)، وخيم على الجميع السكون والهدوء التام منتظرين ما سيقوله الشيخ عرار، إلا أنه لم يتكلم إلى أن أخذ الليل بعضه، واطمئن إلى أن الجميع نيام، دون أن يعرف أن الشيخ عمير لم ينم أبدا، وبقي مستيقظا يرقب ما يبدر منه، فلم يسمع إلا أنينه، ونشيج بكائه، وهذه القصيدة التي يشرح بها ما حدث له، ولعربه:
حلم حلمته يا بو منيف وراعني
حققت يا قلب أنا من البين خايف
من شوفتي للجربوع ينقل عياله
يطلع بها عَ روس الجبال الوهايف
بعد ثلث ايام جانا هويدها
تدبي بها كجمال العلايف
خذت جميع المال والبوش والنضا
وغدت عني عمرا بالسدود الوهايف
تقب عروق الميس من شمخ الذرى
وتفرق ما بين الوحوش الولايف
ظليت اباري السيل من كل عقلي
ولقى الربو بانياً عقرن عارف
والله ماني على المال محتسف
ولاني على الدنيا كثير الحسايف
محتسف الا عدرقةٍ من البيت كن غدت
القى بها حدا السيوف الرهايف.
سمع الشيخ عمير القصيدة كاملة، وعلم ما حل بعرب الضيغم، وفي الصباح جمع رجاله في بيته وعرار جالس، واعلمهم ما حل بأقاربهم من عرب الضيغم، وبشيخهم عرار، وقال لهم: نحن مهما بذلنا، ومهما قدمنا، لا يمكن نرد لولد عمنا ما فقده، ولكني أشهد الله على ما أقول بأنني أتنازل عن الشيخة لولد عمنا عرار، وهو من الآن وصاعدا الشيخ عليكم، وهذه اخت المرحومة عمرا الثانية مبروكة عليه، وارجو ان تحتفلوا بهذه المناسبة، وتقيموا الافراح، لعلنا نخفف عن الشيخ عرار هذه النكبة الكبيرة».
مصير الشيخ
«واحتفلت عرب الراشد بهذه المناسبة، وتزوج الشيخ عرار من اخت الشيخ عمير الثانية، إلا أن الأقدار لم تدعهم يهنأون، لأنه في احدى الليالي ينطلق المشهور من مربطه، وتصحو زوجته الجديدة، وتعيده إلى مربطه، وبينما كانت بين أيادي المشهور لتربطه استيقظ عرار من نومها، وظنها أحد اللصوص، وقد جاء لسرقته، فتناول رمحه وضربها بالخطأ ضربة قاتلة، وقد هرع الجميع، وعرفوا بما حدث عن طريق الخطأ، ومن بينهم الشيخ عمير الذي زوج عرار باخته الثالثة الملقبة بالزهدا، والمعروف عن الزهدا أنها مشاكسة جدا، ولا تهدأ على حال، وتتشبث بأي شىء لخلق مشكلة، وفي احدى المرات يمر عرار بالقرب من احد منازلهم القديمة، فيتذكر عربه، وزوجته عمرا، وأولاده، ويأخذ بالبكاء، ويقول:
يا دار منتي دارنا العام لوّل
خنتي بينا والله يخونك دار
انا افتكرتك دار تلمي شملنا
اثاريكي دار وللفراق مزار
هذا مربط المشهور هذا مغزا القنا
يا نقره الخطّار ما فيكي نار
هذا منام اريش العين صاحبي
آبو الحلا آبو نهود زغار
انا مثل ضميان علىالبير وارد
يدلّي الرشا يلقي لحبال اقصار
انا مثل حيد علىالدار بارك
يحن ولو مرّن عليه ابكار
انا مثل طير قصقص البين ريشه
يراعي بعيونه كل طير طيار
انا مثل يتيم على الدار قاعد
يلجلج بعيونه والدموع غزار.
يقول الشخ عرار هذه القصيدة والزهدا تسمعه فتأكلها الغيرة، وتقول له بعصبية (أنا أشوف كل الديرة الك فيها مقام ومزار). وتخلق له شر ويكون محرج أمام عمير ولا يقدر أن يعمل شىء إلا محاولة ارضاء الزهدا، والزهدا غير راضية. وعندما ثارت كبرياء الرجل، وفقد صوابه، وهجم على عرب الراشد، وكان أمامه عدد منهم راكبين خيولهم، ومعهم الشيخ عمير الذي عرف أن الزهدا اغضبته حتى فقد عقله، وقال لجماعته اتركوهن لقد اغضبته اللعينة. ولما رأى عرار أنه ما من رجل يهرب أو يتحرك من أمامه، ابتعد عن الرجال، وقال في نفسه (كنت عندما انتخي تهرب الفرسان من أمامي، ولو كانوا بالمئات، والآن ما من أحد يتحرك أو يهابني). ولم يجد أمامه إلا أن يرتكي على سيفه، ويقتل نفسه، ويتخلص من هذا العذاب. وبهذه النهاية المؤلمة تنتهي القصة، ويسدل الستار على قصة ديوان الضيغم».