إبراهيم كشت
هل ينبغي أن نتعامل في سلوكاتنا وتوجّهاتنا واهتماماتنا مع ما هو كائن ، أم مع ما يجب أن يكون ؟ وأي الأشخاص أكثر نجاحاً في الحياة ، هؤلاء الذين يضعون في اعتبارهم الواقع القائم وحده فيتعاملون معه ، أم أولئك الذي يستحضرون في أذهانهم ما يجب أن يصير إليه الواقع ، ثم يتعاملون على أساسٍ من ذلك ؟ وأي هذين الفريقين أكثر ذكاءً ؟ وأيهما أقرب لمبادئ الأخلاق الحسنة ، وقيم الحق والخير والجمال وسواها من القيم الرفيعة ؟
أعتقد أن المشتغلين بالعلوم أو المهتمين بها ، سواء العلوم الطبيعية أو الإنسانية ، وكذلك المشتغلين أو المهتمين بالفكر والفلسفة والفن والأدب والبحث ، والمصلحين والساعين نحو الإصلاح ، هؤلاء جميعاً ينظرون إلى الواقع غالباً من خلال ما يجب أن يكون عليه ، فنظرتهم لما هو قائم وموجود ناقِدَةٌ عادة ، واهتمامهم ينزع إلى الأفضل ويصبو إليه ، فالعالِمُ في مختبره مثلاً ، يقاوم جهل الإنسان القائم في جانب من جوانب الواقع ليصل به إلى ما يجب أن يكون من معرفة وعلم بذلك الجانب ، فيسعى نحو الاكتشاف والاختراع الذي يحقق الأفضل ، من حيث تحسين حياة الإنسان وتسهيلها وتخفيف آلامها ، وهذا هو حال المفكر والباحث والأديب والمصلح ، يحلل الواقع القائم ويقارنه بما يجب أن يكون الحال عليه ويسعى نحوه .
وإذا كان هذا هو شأن العلم والفكر والأدب والإصلاح في تعاملها مع ما هو كائن وما يجب أن يكون ، فإن ثمة مجالات أخرى في الحياة لا تُلقي بالاً إلا للواقع القائم ، ولا يهمُّها عادة ما يجب أن يكون ، لا من قريب ولا من بعيد ، ومن ذلك مثلاً السياسة والتجارة من حيث ممارستهما الفعلية في واقع الحياة في غالب الأحوال ومعظم الأحيان . فالسياسة كما يقال فيها هي فن التعامل مع الواقع ، ومحورها وهدفها المصالح وليس السعي نحو ما يجب أن يكون ، وهذه هي أيضاً حال التجارة التي ترمي إلى الربح من خلال التعامل مع عناصر الواقع ، وليس مع ما ينبغي أن يكون ، وإذا كانتا كلتاهما ، أي السياسة والتجارة ، تحاولان الظهور بغير هذه الحقيقة فتلك أيضاً محاولات تهدف لتحقيق المصلحة من خلال التعاطي مع ما يستلزمه الواقع القائم ولو بالتظاهر والادعاء .
ولعلّ هذه الحقيقة ، حول كون السياسة بطبيعتها تتعامل مع ما هو كائن وليس مع ما يجب يكون ، تفسر ما يَحارُ الناس فيه عادة حين يجدون صاحب المبادئ الداعي للإصلاح ، ما أن يتولى منصباً حتى يرى الناس منه سلوكاً مختلفاً عن منهجه السابق ، فيتعجّبون . وعِلّةُ هذا السلوك أن هذا الشخص يكون قد انتقل حين تولى المنصب من التعامل مع ما يجب أن يكون إلى التعامل مع الواقع القائم ، أي مع ما هو كائن . وهذا هو حال التجارة غالباً في ممارستها الفعلية العملية ، تأخذ في اعتبارها مقتضيات السوق وأسباب الربح ، ولا يهمها في سلوكها الواقعي عادة إن كانت تتعامل مثلاً بمادةٍ ملوِّثة للبيئة أو للفكر أو للنفس ، ولا يهمها كذلك التأثير سلباً في سعر الصرف أو في الميزان التجاري أو ميزان المدفوعات أو سوى ذلك مما يهمّ المجتمع .
ومن المفكرين الذين أدلوا بدلوهم أو أبدوا رأيهم في الإجابة عن السؤال الذي طرحناه بداية هذا المقال ، وهو : (هل ينبغي التعامل مع ما هو كائن أم مع ما يجب أن يكون ؟ ) كاتب سياسي سيء السمعة ارتبط اسمه بمقولته الشهيرة (الغاية تبرر الوسيلة) ، إنه الكاتب الايطالي (نيقولو ميكافيللي) المتوفي سنة 1527 صاحب كتاب (الأمير) الذائع الصيت ، حيث يقول في كتابه هذا مبدياً نصيحته بشأن التعامل مع ما هو كائن ، وما يجب أن يكون : (إن الطريقة التي نحيا فيها ، تختلف كثيراً عن الطريقة التي يجب أن نعيش فيها ، وإن الذي يتنكر لما يقع سعياً منه وراء ما يجب أن يقع ، إنما يتعلّم ما يؤدي إلى دماره ، بدلاً مما يؤدي إلى الحفاظ عليه) ، ويقول أيضاً في موضع آخر من كتابه إياه (وإني لأعتقد بسعادة ذلك الإنسان الذي تتفق طريقة إجراءاته مع مقتضيات الزمن ، وبتعاسة من يعارض بإجراءاته تلك المقتضيات) .
ويُعجبُ الكثيرون برأي ميكافيللي هذا وبآرائه الأخرى ، ويؤكد بعض هؤلاء أن آراءه وإن كانت تبدو ممجوجة وغير مستساغة ، بل قبيحة في نظرنا حين نحتكم إلى العاطفة ، لكنها موافقة للحقيقة والواقع ? حسب قولهم ? كما أن تجارب الحياة تدلُّ على صدقيتها . وربما أتوك ببعض الأمثلة الواقعية التي تؤيد مقولات ميكافيللي وآراءه ، بما فيها دعوته للتعامل مع ما هو كائن وليس مع ما يجب أن يكون .
ولكني أعتقد أن هذا الحكم على آراء ميكافيللي (التي توصف بالواقعية ، وتدعو للتعامل مع ما هو كائن) بأنها حقيقية وصادقة وجديرة بالإتباع ، حكم سطحي ولو أيّدته آلاف الأمثلة والأحداث والوقائع والتجارب ، فالحقيقة أن التعامل في الحياة ينبغي أن يظل متجهاً نحو ما يجب أن يكون ، وحسبُنا دليلاً واحداً على ذلك أنه لو طبّقت آراء ميكافيللي من قبل الجميع ، ولو لم يكن ثمة من يتطلع إلى ما يجب أن يكون ، لبقي الناس منذ عهده بداية القرن السادس عشر وحتى يومنا هذا على الحال التي كانوا عليها ، ولما كانت سادت أوروبا وأمريكا الشمالية وسواها الديموقراطية والحرية والمساواة والتنمية على هذا النحو ، ولما كانت الثورة الفرنسية ولا مبادئها ، ولما حُرِّر العبيد ، ولا أعلنت مبادئ حقوق الإنسان ، ولا نشأت الأمم المتحدة ، لأن الجميع كان سيتصرّف وفق دعوة ميكافيللي للتعامل مع الواقع القائم ومع ما هو كائن دون أن ينظر لما يجب أن يكون ودون أن يسعى إليه .
على المستوى الفردي ، قد يكون الذين يتعاملون مع الواقع ومقتضياته دون نظر لما يجب أن يكون عليه ذلك الواقع ، أكثر نجاحاً ، ولكن على المستوى الاجتماعي والإنساني ، لا يكون التقدم والتنمية والتطور وتحقيق الأفضل إلا على يد الذين يتطلعون إلى ما يجب أن يكون ، وينظرون إلى الواقع من خلال ما ينبغي أن يصير إليه . وهؤلاء هم الأكثر فاعلية وأثراً في الحياة والتاريخ ، وهم من يجب أن ينالوا التقدير والاحترام .
[email protected]