لفت الأنظار منذ تجربته الصحفية المبكرة مع الإصدار الأول لجريدة الدستور سنة 1996 ، رشحه الصحفي اللامع إبراهيم عيسى لمنصب سكرتارية التحرير، وهو الخريج الجديد من كلية الإعلام - قسم الصحافة في جامعة القاهرة، تفوقه الدراسي وموهبته الفائقة في الكتابة الساخرة كانت المسوغات الأساسية التي دفعت عيسى لتعيينه كأصغر سكرتير تحرير في مصر، وبالفعل أسهمت عقلية و روح العناد لديه في أن يتحول إلى ''دينامو'' الجريدة حتى تم توقيفها في قضية شهيرة بعد عامين على صدورها.
إنه بلال فضل الذي قدم صورة نادرة ومثالية لطاقة الموهبة التي تدفع شخصا مثله لاجتياز مارثون المنافسات والمناكفات في أروقة صاحبة الجلالة، فالصحفي المشاكس والنزق استطاع أن يحول عناده إلى ميزة تنافسية في السوق الصحفي، صحيح أنه خرج مغضبا وهو يضع مثالياته على رأسه من أكثر من جريدة على خلفية تمسكه بوجهات نظره أو احتجاجه على أنماط سلوكية أو إدارية، ولكنه كان سرعان ما يندمج في تجربة جديدة، ولكن دائما ضمن السقف الذي يسمح به مستوى الحياة التي يمكن لصحفي مبتدئ والأكثر من ذلك معتد بنفسه متشبث بمبادئه أن يعيشه.
لاذعة.. مريرة.. جريئة بالتأكيد هي كتابات بلال وكذلك تستطيع أن تختطف عنوة تلك الضحكات التي تنتهي بالبكاء كما يقولون، قدرة على الإحاطة بالتفاصيل وتفكيكها والقبض على المفارقة وعرضها في أسلوب رشيق، وتحول فضل إلى ظاهرة وإن كانت نخبوية بعض الشيء، أنكره البعض وهمشوه واستهدفوه وفي المقابل انتزع الاعتراف الذي تطور لاحقا لإعجاب من قبل كثيرين، ككاتب صحفي وكاتب قصة قصيرة وأيضا ككاتب سينارست يعد الأشهر بين جيله، والحصان الأسود بين كل كتاب السيناريو الذين ما زالوا يعملون في الفن السابع.
البداية القوية في بلاط الصحافة تكررت مرة ثانية مع السينما، فمن أجواء عايشها بلال عن قرب، وغاص في تفاصيلها أثناء سنوات حياته الأولى في الإسكندرية التي ولد بها سنة 1974 يكتب فيلمه الأول ''حرامية في كي جي تو'' سنة 2001 من بطولة كريم عبد العزيز وحنان ترك ومشاركة الممثل ماجد الكدواني وطلعت زكريا والطفلة مها عمار، وطرح الفيلم للعرض في فترة صعود الموجة الثانية من المضحكين الجدد كما يسمونهم والتي كانت وما زالت أفضل من الموجة الأولى التي قدمت محمد هنيدي وعلاء ولي الدين، الفيلم كان مليئا بالضحك وبالسخرية التي بدت كثيرا مقحمة ومفتعلة من باب السائد والمطلوب، ولكن السيناريو لفت الأنظار أيضا بتماسكه وإيقاعه الذي قدم قصة يمكن مشاهدتها أيضا دون كل تلك الكوميديا.
لم يكن فضل يمتلك الخيارات الواسعة في البداية، فمتطلبات السينما تختلف عن تلك السائدة في عالم الصحافة، ومساحة النزق في كتابة المقال الصحفي تتضاءل وتكاد تختفي أمام شروط الإنتاج السينمائي، فالمقالة الصحفية أو القصة القصيرة هي في النهاية مسؤولية الصحفي وحده بينما الفيلم هو مسؤولية مشتركة بين فريق ضخم من الفنانين الذين يختلفون في وجهات النظر وتتنازعهم الأهواء، وفوقهم أيضا ذوق الجمهور الذي يدفع تكلفة الفيلم مضافا إليها الأرباح التي أصبحت المقياس لنجاح الفيلم أو فشله.
هل تخلى بلال عن مبادئه الصحفية أمام إغراء ما قدمته له السينما من إنقاذ لأوضاعه المادية التي لا يخجل بلال من ذكرها بتفاصيلها في كتاباته واستلهامها في أعماله؟ يرى بعض النقاد أنه تخلى وفرط وانقلب ويستطيعون أن يدللوا على رأيهم من أعماله السينمائية، ولكن الكثير من متابعيه يرونه الأقرب من نبض جيل الشباب والحياة الشعبية، ويؤكدون أنه المتحدث الرسمي باسم ثقافة المهمشين، إنه يقدم لهم أنفسهم ولكن بسخرية ولو وصفها آخرون الاستخفاف أو بالإسفاف.
في فيلم الثاني ''صايع بحر'' الذي استلهمه من أجواء مدينة الإسكندرية التي قضى فيها جانبا مهما من حياته حصل بلال على هجمة نقدية تشبه موجة ضخمة ولكنه تمسك بمنطق الصخرة، وقرر أن يرد الصاع بصاعين في أكثر من مقابلة صحفية، الفيلم لم يكن بمستوى فيلمه الأول وربما دونه بكثير، وعموما ليست مسؤولية الفيلم تقع بكليتها على السينارست، ولكن فضل تحمل كل التبعات ولم يلقي بحمله على أداء أحمد حلمي المتردد في تجربته الأولى من البطولة المطلقة، أو ياسمين عبد العزيز التي كانت تفتقد لكثير من لياقتها بعد غيبة طويلة، وكذلك تجاهل إلقاء العبء على المخرج علي رجب الذي لم يقدم أي بصمة مميزة في الفيلم.
بعد صايع بحر يعود بلال لترتيب أوراقه من جديد وينجح مع فيلم ''الباشا تلميذ'' في إعادة رونقه وكسب جولة جديدة في علاقته المضطربة مع النقاد، فالفيلم بقصته البسيطة التي تبدو مكررة للوهلة الأولى وبجميع الشخصيات النمطية التي قدمها والمشكلات المكررة، إلا أنه استطاع أن يقدم سيناريو محكم ومتماسك بدرجة ممتازة، حتى لوازم الكوميديا التي لا يمكن الاستغناء عنها لاعتبارات إنتاجية أدمجت في السيناريو وأصبحت بمثابة نقلات رشيقة لتقدمه في الأحداث، واستطاع بلال على ذلك أن يكتسب قدرة على قلب مسار الأحداث خارج المتوقع والعودة إلى الذروة من جديد لأكثر من مرة في الفيلم.
هذه الحبكة تطورت في تجارب لاحقة فلحظات انكشاف مهمة الضابط وتوتر الدراما في الفيلم التي أنذرت بانتهاء مهمته لتعقب مروجي المخدرات في الجامعة وفتحت أكثر من احتمال لنهاية الفيلم التي كانت وشيكة تم توظيفها واستثمارها من جديد للوصول للنهاية السعيدة التي ترضي الجمهور، وكان يمكن لبلال أن يختصر على نفسه الكثير لو واصل الكتابة في نفس المساحة ولم يتورط أو يورط نفسه طواعية في تجربته التالية مع ''خالتي فرنسا'' الذي استثمر فيه المنتج شعبية عبلة كامل كفنانة تلقائية.
ربما يكون أحد أضعف أفلامه ولكنه تناول موضوعا صعبا ولم يكن في وسع أحد أن يكبح الميل للسوقية أثناء تمثيل الفيلم الذي وضع تجربته في مأزق صعب بين شباك التذاكر وبين البحث عن الذات الذي تواصل أيضا مع فيلميه التاليين ''علي سبايسي'' و ''سيد العاطفي'' الذي ظهر بلال في أحد مشاهده وكأنه يضع لمسة هيتشكوك على الفيلم.
فيلمين غنائيين يقوم ببطولة الأول المطرب الشعبي حكيم بأدائه الضعيف والمهزوز الخالي من إبداع، وفي الثاني تحضر استعراضية تامر حسني وشروطه الخاصة لتصنع فيلما يحاول أن يجمع الخلطة التي يفضلها حسني الذي حاول أن يخفف من ثقل ظله أمام الكاميرا، وفي الفيلمين استطاع أن يجد دعاة المبادئ ثغرات كثيرة للهجوم على بلال فضل، وتحميله مسؤولية السينما أزمة السينما، وكعادته لم يتهرب بلال من مسؤوليته ودخل في حالات جذب وشد مع النقاد الذين تعاملوا معه بذائقة ثأرية، في الوقت الذي اعترف فيه بلال بأن أفلامه وإن كانت تتحمل الكثير من الملاحظات، إلا أنها ليست أفلاما ''مسلوقة'' وأفكارها تعود أحيانا إلى سنوات، بمعنى أنها لم تفصل لأحد حتى ولو كانت تناسب مقاس البعض.
لم يتوقف بلال كثيرا عند الجدالات التي أخذ يبتعد عنها ويضعها وراء ظهره، وعاد إلى مصالحة جمهوره مع فيلم ''حاحا وتفاحة'' الذي كان البطولة الأولى لطلعت زكريا الذي احتاج إلى وقت كبير وكبير جدا للوصول إلى هذه المكانة، وبالفعل لم يخيب فضل توقعاته وقدم له فيلما استطاع أن يضعه على الخريطة، حضرت جميع البهارات السينمائية ولكن حضر نمطه الخاص في الكتابة لإخراج قصة تقليدية وعادية في إطار مضحك بالفعل.
هل الضحك هو ما يسعى إليه فضل؟ وهل يسعى لذلك من منطلق سلطة الإيرادات أم لرغبة ربما فلسفية في تقديمه كهدية للجمهور؟ يعترف بأنه يقصد دور العرض السينمائية ليعرف إن كان المشاهدون يضحكون أم لا، ومع كل ضحكة يعرف ما الذي يعجب الناس وكيف يصنع لهم أفلام تعجبهم، هذا هو مقياس النجاح لديه ببساطة أن يضحك الناس، وليس أي نوع من الضحك فهو الضحك الذي يضم أحلام جمهوره ويربت عليها، يتعاطف معها ويقدرها دون تعال أو فذلكة.
بعد هذه التجربة يخرج عن الضحك ولكن ليس بعيدا، فيلتقط حادثة واقعية ليصنع فيلم ''واحد من الناس'' الذي أعاد تقديم كريم عبد العزيز إلى الجمهور ولعله غير من مسيرته الفنية ككل، ومنحه رونقا جديدا بعد أن قام المخرجون بتنميطه وحصره في مساحات ضيقة، فالفيلم الذي يحكي عن الحارس البسيط في جراج سيارات الذي يعيش حياة متواضعة ولكن هادئة راضيا بقسمة الله حتى تنقلب حياته الهشة إلى صراع مع الأباطرة في مجال الأعمال - بغض النظر عن أخلاقيتها- فيخرج من كل حياته ليصبح شخصا آخر.
القصة التي استوحت بعضا من أجواء الكونت دي مونت كريستو لتقدم للناس تفريغا عاطفيا أمام حالات التهميش والاعتداء المتواصل حتى على رضاهم البسيط وقناعاتهم بالعيش المتواضع، ويمكن أن يكون هذا الفيلم هو إعادة بلال إلى اتساقه مع نفسه، حتى ولو حاول في أسلوب مهذب أن يتحمل تبعات الفشل لكل تجاربه السابقة بطيبة.
الفيلم الكوميدي الذي تبعه ''وش إجرام'' دلل على تغيير جوهري في أسلوب بلال، فلم يتوقع حتى المتفائلون أن يتمكن محمد هنيدي مجددا من دخول سباق الإيرادات ولكن الفيلم أعطاه الرشاقة التي افتقدها في كل تجاربه السابقة واستطاع أن يعبر عن شخصيته هو دون الأوهام الكبيرة في رصيد نجوميته التي ذوت بسرعة، ومع هذا الفيلم كان فضل يضع نفسه كحقيقة لا يمكن تجاهلها في السينما المصرية واستطاع بلال أن يعيد الرونق لكاتب السيناريو، وللمرة الأولى منذ سنوات طويلة يقصد الجمهور صالات العرض من أجل كاتب السيناريو وليس لأجل الممثلين أو المخرج.
يعود بلال إلى تجربة الكوميديا مع فيلم قريب جدا من أجواء الفيلم الأمريكي ''السير في الضباب'' ويقدم كريم عبد العزيز من جديد في فيلم ''في محطة مصر'' وعلى الرغم من التشابه إلا أن الجمهور تغاضى عن ذلك التناص المباشر واندمج في أحداث الفيلم الذي كان تدريبا مفتوحا على الضحك، ولكن يبدو أن أسهمه صعدت أيضا مع واحد من الناس ليعيد التجربة من جديد مع فيلم ''خارج على القانون'' الذي كان واحدا من أفضل أفلام 2007، ويبدو أن شراكته في الأفلام التي تتطلب جرعات حركة عالية مع أحمد جلال المتمكن في ذلك النوع أسهم بصورة جوهرية في تحقيق نجاحات متتالية، وفتح الطريق أمام تجربة بلال لمزيد من التنوع.
بلال يكتب كثيرا ولكنه يؤكد أن حتى أسوأ أفلامه يصنف في خانة المتوسط ولم يصنع حتى الآن أفلاما رديئة، وعلى الرغم من تماسه مع السياسة فإنه يؤكد أنه لن يكتب أفلاما سياسية ولكن تجربته وما يتم تناقله عنه من أخبار يؤشر على نية جريئة للغاية لتحويل رواية علاء الأسواني ''شيكاغو'' إلى فيلم سينمائي، وهذا ما يتمنى كثيرون أن يتحقق.
' فضل '' شخصية متنوعة وغامضة أيضا، وهو لا ينفي ذلك الجدل في تقديمه لكتابه الأول ''بني بجم'' الذي جمع قصصه القصيرة، والذي يؤكد أنه سيستمر في تقديم فن متفاوت في الجودة ولكنه في المحصلة سيستطيع أن يثبت أقدامه في تاريخ السينما، المرجح أنه سيعتزل بعدما تتلاشى الضحكات على أفلامه من دور العرض وهذا احتمال ضعيف جدا وحتى وإن حدث فالقليل من الدموع قد تفي بالغرض.
بلال فضل (صايع بحر) لا يهاب الامواج
12:00 9-10-2008
آخر تعديل :
الخميس