منذ الالتفاتة الأولى إلى الأردن تجد نفسك '' أياً كنت '' مسكوناً بوقاره ، وناهضاً لتنسج من خيوط فجر تاريخه نشيدك النبيل ، تاريخ قدَمَ رجالات فجروا حتى نسغ النخيل ليشرب الوطن..
فيا وطني الممتد من القلب للقلب الرابض دوماً تحت الأهداب .. اسمح لي أن أحادث فترات تاريخك الشجاع ليبقى في ذاكرة الأبناء يزاحمون به الأيام والسنين بحثاً ودراسة ليبقى الوطن شكلاً يفرح به التاريخ وتعتز به الأجيال..
من هنا.. من فيلادلفيا.. من مدينة الماضي البعيد حيث أقام فيها إنسانها الأول أنصاباً ضخمة مكرساً بها وجوده عندما سكنوها بيوتاً حجرية وأحاطوها بالأسوار حتى تطورت فأصبحت تحصينات تدل على أن هذا الإنسان وصل لدرجة متقدمة في التقدم في التحصن ، كان ذلك في الألف السادس قبل الميلاد وقبل الاهتداء إلى صنع الفخار .. ومذ ذلك الوقت بدأت الجماعات البشرية تتطور إلى أن أصبحت المدينة حاضرة هذه المنطقة وعرفت باسم ''عمّون'' سنة 1200قبل الميلاد .
امتدت مملكة ربة عمون بين نهر '' آرنون'' '' الموجب'' جنوباً .ونهر زاركي الزرقاء شمالا.
وتشمل حسب بعض الروايات عشرين مدينة .
اكتسبت المدينة أهميتها الاقتصادية بسبب ثروتها المائية والزراعية فقد أقحمت في التاريخ السياسي عندما تعرضت للغزو الآشوري والبابلي ، والفارسي واليوناني والروماني إلى أن دخلت في الحكم الإسلامي على يد القائد العربي '' يزيد بن أبي سفيان '' وما يجب ذكره أن التسمية السامية القديمة عادت إلى المدينة أي عمان بدلا من فيلادلفيا ..
من هنا .. من تاريخ هذا الوطن وعبقرية مكانه سأنطلق إن شاء الله إلى باقي مدن المملكة لأتناول بعض أشيائه كأسواقه العتيقة ومبانيه وناسه .. لأروي بعضا من قصص أهلها وحكاياتهم التي تتصل بجميع طبقات سكانها ومستوياتهم الاجتماعية وغيرها ..
هنا يتجلى الجمال بطبيعته مختالاً بما احتضن من أطياف فصوله الأربعة بموصوفها ، هيبة المكان بثوابته العالقة في الأعالي،مع أبراج تُسؤِّر قلعة الكرك المهيوبة بأحداثها وكبرياء أهلها..
منجنيق حمايتها هذا الوادي السحيق، الملتف حولها منذ القدم يرعاها من أي متسلق أو دخيل مباغت.
إيحاء المكان بطغرافيته يفرز للعيان وادياً جميلاً تدلل بمياه منسابة وهضاب ناهده تشابكت عليه لتترك في فسحة أعماقه هذا المنظور الراسي بهيئة سفينة ربضت منذ الأزل يتمتع الناظر إليها ويزداد نعنشة بمسماها المتعارف عليه مجازاً عند أهل الكرك بسفينة نوح .
يوحي التصميم بنحته المدهش عن فن خلاق، اصطلاح تسميته تذكير ببركة ومثوبة بالصلاة والسلام على سيدنا نوح، أليس في هذا مكسب..؟ ذكرى الطوفان العارم، ومعنى النجاة مما حُمّل من كل زوج اثنين، وما تحمل ربان تلك السفينة،حِكم ربانية،في تكريم الأحياء واستمرار الحياة بنبضها المتجدد مع الصابرين الموقنين ،فما أجمل التذكر!! وجه المكان بسمة ناصعة بخدود وردية ،ودمعات العين قطرات حلوة على مطلات المحيا.. طواحين الماء المتعربشة على الأكتاف كنقطة عنبر في صفحات خدود السفوح الخضراء المجذبة بصخر تخاله مرمر..
وفي وادينا وادي الكرك ،محكاه امتزجت بمزاج الفطرة الإنسانية،وعفوية الطبيعة بطبائعها ،هنا يحلو الحل ،وهنا أنا بحلي ،أرويت حلالي،وأغنيت مسمعي بهتاف الطيور ،ونطق الأمواج،وعلى غدير الماء ناديت هلمّي يا شياه واتبعي يا خراف.
هذا الاخضرار القائم تعبير عن راحة وأريحية تهفو الأنفس إليه،عرف بمقام سيدنا نوح عليه السلام،فبارك يا رب لأهل الديار بطول الأعمار.
تسرح النظرات وأنت في مقلة العين ،عين سارة تحت عرائش المتنزه العام بجلسات الصفا ولطف المعشر تهوى رقصة النوافير ومداعبة الأغصان المهفهفة مع سبائك الشمس الملتوية بجدائلها الراقصة على أنغام الجداول تنادي وننادي يا جارة الوادي طربت وعاد لي ما يُحيي الذكرى وأحلامها .
وفي وادي الكرك عين سارة معاني نقتبسها من وجه الوادي ..ترى إيقاعات الماء والأحياء ثروات طبيعية مع أيادي تبني وتزرع وتأكل خيرها حتى تشبع فيا للخير والخيرين.
ويُطفأ التعب وعناء كل يوم مع سكبات الماء المتسلسلة من بطن الوادي بقصد الوضوء تعبيراً عن النفوس الطاهرة الحامدة والشاكرة للعاطي المعطاء.
يلوذ الوادي مع ظلاله منسلاً من سطوع شمس مهيمنة ليريك من خصخصة المكان ما يريك.. لملمة أنوار نهاره قصراً برشاقة ظلال ظليلة نفرت عرائشها المتعربشة على أدراج البساتين هاربة لموعدها مع الخلان والزوار.
يقول جدي :حال القيلولة تستهويني هذه الصومعة بوسائدها ومفرشِها ولُحفها في كل يوم ،أتوسد شجرة وأفترش من التربة فرشة وألتحف من آفاق السماء غطاء بما فيه من آمل ورجاء.
أشتم رائحة الثرى .. وللثرى رائحة عجنت برفيف قطرات الندى تناديني بهداوة هذا الماء الرقراق لنعزف أهازيج الوجد معاً.. فيا جارة الوادي هيا إلى وادينا وادي الكرك فيه يحلو الجوار.
وصعوداً نعاود الطريق الذي سلكناه قرابة 3كيلو مترات وفي النفس مِراح من هذا المراح نصل قلب المدينة ونقف مع هذه الوجاهة بوجهها الناصع وسعة وجهاتها نتابع ونتتبع على خرائط المكان مَعْلماً رصدْناه وحددْنا موقعه الكائن على بعد 25كيلو متراً شمال شرق مدينة الكرك،فإذا نحن ببلدة وادعه تدعى ''ذات راس'' .
هذا المسمى يوحى لك بالشموخ،وعلى أرض الواقع يبان الارتفاع بالعين المجردة،مقارنة بما يجاورها من قرى. فذات راس ترتفع 1500متر عن سطح البحر ،وهذا الاسم يعيدنا إلى القرن السابع قبل الميلاد ،ليذكرنا بأحد آلهة الأنباط ''ذات راس''.
وتعي قيمة المكان من أعداد الرحالة وتهافتهم المستمر إليه مما يثير تساؤلاً عن سر ذلك .
من هذه الأسرار السريرة النقية أُناسها العشريين،وهذا المتحف بقلعته نبراس وصْل للمد النبطي بمعابده المهندسة بفراغات وعبارات تصور معنى وجودها منها في ذات راس ،ومدى تطابق تشكيلاتها العمرانية مع آثار ''نويجيس'' في مدينة عمّان بتقسيماتها الهيكلية من الداخل والخارج يدعونا لمعرفة سر هذه الصلة!!.
ومن الأسرار،عنفوان شامخ معنىً للتحدي والثبات،هذا الانحناء رمز احترام للأرض وإنسانها،وإشارة شاهدة على مدن ومملكات نبطية بيزنطية إسلامية بنقشات أبرزت مسميات من أعلام الأولين أمثال ابنة عمرات .
ها هي ذات راس الجميلة بإنسانها وكنوز حضارتها وحاضرها،مطلة من نوافذها العالية على ما حولها من سهول ووديان ،ترصد عطاء الأخيار،وحراك الأجيال لتحكي حكايتها مع كل زمان.