ذلك ليس من باب البحث عن جملة افتتاحية للدخول في عالم أبو سيف ولكنها حقيقة يقر بها الجمهور و المتخصصون في مجال السينما، فلا يمكن الحديث عن السينما الواقعية في العالم العربي مثلا دون التطرق لتجربة صلاح أبو سيف المميزة التي مثلت مدرسة لأجيال تلته من المخرجين، كما لا يمكن تجاهل دوره كأحد الذين عملوا على بناء نظرية سينمائية عربية ما زالت تثير الكثير من الجدل و النقاش.
صلاح أبو سيف ابن حي بولاق الشعبي في قلب القاهرة استطاع أن يكون ممثلا صادقا للطبقات التي خرج منها ليشق طريقه المهني في السينما المصرية، و هو يعي ذلك بصورة واضحة فيؤكد في بنية نظريته السينمائية أن أي عمل فني يعبر عن انتماء طبقي، و بالنظر إلى بنية مجتمع القاهرة في العشرينيات و الثلاثينيات فترة تشكل الوعي عند صلاح أبو سيف فإنه ينتمي إلى الشريحة الأقل حظا في الطبقة الوسطى، لذلك و خلافا لأبناء جيله المخرجين فإنه لم يدخل إلى عالم السينما من باب الدراسة الأكاديمية التي كانت حكرا على أبناء النخبة ولا من باب المغامرة المترفة و لكنه دخل إلى هذا العالم من بوابة ضيقة متاحة لموظف في مصنع نسيج المحلة، وعن طريق صدفة نادرة جمعته كعاشق للسينما بالمخرج نيازي مصطفى الذي ساعده على الالتحاق بأستوديو مصر سنة 1936.
حتى هذه النقلة لم تكن تكفي لصناعة اسم صلاح أبو سيف فكان يمكن أن ينكفئ على دور فني بسيط أو أن يستمر في العمل على المونتاج، ولكن حمى الثقافة و الإطلاع التي دفعته لاستدراك الخلفية المعرفية مكنته من أن يعمل مساعدا أولا للمخرج كمال سليم في فيلم العزيمة سنة 1939 ليسافر بعدها إلى فرنسا لدراسة السينما ولكنه يعود أدراجه بسبب الحرب، فيستمر في عطائه في قسم المونتاج بأستوديو مصر حتى نهاية الحرب حيث قدم فيلمه الأول ((هو دائما قلبي)) في سنة 1946، ولكنه لم يحقق نجاحا كبيرا، فلم يكن صلاح أبو سيف في هذا الفيلم يعبر عن نفسه و لا عن ثقافته الشخصية، ولكنه يحاول أن يماشي الشروط الإنتاجية السائدة في ذلك الوقت فلم تكن السينما المصرية في الأربعينيات تعرف غير الأفلام التي تستدر البكاء أو تستجدي الضحك.
في تلك الفترة تعرف أبو سيف على تيار الواقعية الجديدة ليجد ذلك العالم السينمائي الذي يضعه في اتساق مع ذاته، ليقدم أفلاما تقترب من واقع الحياة المصرية وما يمكن تسميته مجازا بنبض الشارع، ليكون فيلم شارع البهلوان في 1949 لتأخذ أفلامه في النضج واحدا تلو الآخر حتى يأتي فيلم ((شباب امرأة)) سنة 1956 لتكون رؤيته السينمائية الخاصة قد تبلورت بصورة كبيرة، بطبيعة الحال كان تقديم أفلام مثل ((الوسادة الخالية)) و ((لا أنام)) من قبيل الانصياع للشروط الإنتاجية حيث كانت السينما المصرية تعيش عصر الفيلم الرومانسي، لكنه استطاع أن يمرر في تلك الفترة فيلما مثل ((الطريق المسدود)) و ينتقل به من عالم القاهرة إلى الريف لتتجلى قدرته على الإلمام بالتفاصيل، الذي يبدأ من مرحلة السيناريو حيث يصر أبو سيف على وضع لمساته مبكرا على أي مشروع يقبله.
في سنة 1959 قدم صلاح أبو سيف فيلما مهما في أجواء فانتازية - مثلت الفانتازيا محطته التالية في الأهمية بعد الواقعية الجديدة - حيث أتى فيلم بين السماء والأرض كلوحة سينمائية جمعت تناقضات شخصيات تعطل بها المصعد في عمارة قاهرية و بدأ كل منهم يدخل في حوار داخلي لتتشكل صورة كلية لمجتمع رآه أبو سيف معلقا بين السماء و الأرض، كانت رؤية أبو سيف في هذا الفيلم أن السينما يمكن أن تقدم المقولات الفلسفية الكبيرة في الأفلام، و أن هذا الفن بإمكانه أن يقدم للناس شيئا آخر بالإضافة إلى المتعة.
بعد سنة واحدة أبو سيف يقدم واحدا من أكبر أعماله و فلتة في السينما الواقعية العربية مع فيلم ((بداية ونهاية)) سنة 1960 عن رواية نجيب محفوظ، ليتمرد على عالم احسان عبد القدوس المفضل لدى المنتجين، و يعيد أبو سيف في تقديم أعمال محفوظ مع ((القاهرة 30)) سنة 1966، ليتمكن في هذين الفيلمين من تقديم أروع تصور للفيلم المنتج عن رواية أدبية.
في سنة 1982 تم استدعاء صلاح أبو سيف ليخرج فيلم القادسية في العراق، الفيلم الذي ما زال يعتبر كأضخم انتاج عربي على الإطلاق حيث تكلف أكثر عشرة ملايين دولار في ذلك الوقت (يفوق المائة مليون دولار بتكاليف السينما اليوم) ولكن الفيلم لم يكتب له النجاح جماهيريا وفنيا لأسباب تتعلق باختلاف الرؤية الفنية الحقيقية عن الأغراض السياسية التي كان يتوجب على أبو سيف مراعاتها أو الخضوع لها.
في سنة 1986 قدم أبو سيف فيلما فلسفيا عميقا يحاول الوصول إلى جذور الاستبداد و الخضوع، فكان فيلم ((البداية)) واحدا من أهم أفلامه على الإطلاق إلا أنه لم يحقق النجاح أيضا سوى بعض عرضه التلفزيوني، ليتوقف أبو سيف نتيجة التقدم في العمر حتى يقدم فيلميه الأخيرين ((المواطن مصري)) 1991 و ((السيد كاف)) 1994 الذين تمكن فيهما من تحقيق مغامرة في الواقعية الجديدة و الفانتازيا ليرحل بعد ذلك مخلفا وراءه تراثا سينمائيا كبيرا، كان أهمه 11 فيلما تم اختيارها ضمن قائمة أفضل فيلم مصري في مئوية السينما المصرية 1997.
يكاد يجمع النقاد أن أبو سيف واحد من التلاميذ المخلصين للسينما الروسية و لكن ذلك موضوع جدلي أما انتماؤه للواقعية الجديدة فذلك أمر مؤكد حيث يعد واحدا من روادها العالميين و ليس العرب فقط.