من دراستي لتاريخ الأردن بين 1920-1947، ومن وجهة النظر الأردنية، لا يوجد عندي أدنى شك، بأن العصر الذهبي في تاريخ شرق الأردن حتى نهاية عام 1947، كان بين عامي 1939-1947. وقد نجح الملك عبد الله، والشعب الأردني، والجيش العربي الأردني في التجربة الصعبة خلال الحرب 1939-.1946 وكان أعظم إنجاز للملك عبد الله هو محافظته على الوحدة الوطنية الأردنية رغم كل الصعوبات التي مر بها ومر الشعب الأردني معه عبرها بنجاح كامل. وعند نهاية 1947، نجح الأردن في اختبار المجتمع المدني الذي يسوده الدستور والقانون، وبالرغم من كونه شعبا غير متقدم بالنسبة للمقاييس الغربية. ولم يكن الأردن بحاجة إلى تطبيق جميع أشكال الحداثة الغربية التي سادت خلال الحرب وبعده. بل كان تمسك الشعب الأردني بتقاليده العربية والإسلامية، واقتباس ما ينفعه في مستوى معيشته، وحكم نفسه بنفسه من الثقافة الغربية أفضل سبيل نحو فوزه بما حقق من منجزات كبيرة مع احتفاظه بهويته الوطنية العربية الإسلامية. وقد فازت المملكة الأردنية الهاشمية بشخصية مستقلة دولية بين الأسرة العالمية المتمدنة.
وبالرغم من وجود شرق الأردن تحت انتداب مسيطر على الشؤون الخارجية ؛ كان عدد الدبلوماسيين والضباط البريطانيين قليلا جدا، ليس أكثر من خمسين، وقد تركوا الشؤون الداخلية للحكومات الأردنية في غالبية الأحيان والأحداث. وكانت مؤسسات الشؤون الدينية، والثقافية، والتعليمية، والشريعة الإسلامية، والقضاء المدني، والمجلس التشريعي حرة من التدخل الأجنبي، بفضل إصرار عبد الله بن الحسين على عدم المس أو التدخل بها ؛ وكان له ما أراد. وكان ذلك الموقف محترما ومقدرا من قبل دولة الانتداب. ولم يكن هناك اتصال رسمي مباشر بين مندوبي الانتداب والشعب الأردني. وكان ذلك الموقف على عكس الموقف في سوريا ولبنان وفلسطين، حيث كان فيها أعداد كبيرة من الرسميين، والضباط والجنود الفرنسيين والبريطانيين في سيطرة تامة على الشعوب العربية فيها. وكان عدد الرسميين في سوريا يتجاوز 7000 موظف وضابط شرطه وشرطي، عدا عن فرقة مشاة عسكرية ؛ وسربين من الطائرات وكان عددهم في لبنان 3000 عدا عن لوائين عسكريين وسرب من الطائرات ؛ وكان عددهم في فلسطين 6000 عدا عن فرقة عسكرية وثلاثة أسراب من الطائرات. أما في شرق الأردن فلم تكن هناك أي سيطرة من قبل أجنبي واحد على الشعب الأردني ؛ وكان الاتصال الوحيد مع الأمير، وحكومته على الصعيد الرسمي. ونتيجة لهذا الموقف كان لدى الشعب الأردني حس قوي من الحرية، ومشاعر قوية بالهوية المنفصلة. وكان في ذلك حالة وطنية مستقرة، وأمنا عاما شاملا، بالرغم من السعي والكفاح السياسي للاستقلال الكامل. ولولا التأييد البريطاني للحركة الصهيونية في فلسطين لنشأت صداقة أقوى بين الأردن وبريطانيا على كل صعيد.
بالرغم من أن البريطانيين والأردنيين كانوا من نتاج اختلاف ثقافتين وحضارتين ولغتين ودينين ونظرتين إلى الحياة السياسية والاجتماعية، استمرت العلاقات الودية والرغبة في التفاهم بينهم، وفهم بعضهما كعناصر مؤثرة في نجاح كل منهما في الحصول على أهدافه: الاستقلال الأردني والفوز في العراق وسوريا خلال الحرب. ولذلك يمكن القول بأن الحلف، وليس السيطرة المطلقة كان طابع العلاقة بين بريطانيا والأردن. ولذلك، كان هذا الحال هو السبب الرئيسي ( ما عدا في عهد سنت جون فيلبي) في عدم قيام اضطرابات خطيرة في شرق الأردن، مما أدى إلى إلهام الشعب بكبريائه وكرامته ومعنوياته العالية.
وبالرغم من وجود شرق الأردن تحت هيمنة غير مباشرة خلال الانتداب قبل الاستقلال، كان للعلاقات القائمة بين أركان الوسطية والاعتدال الثلاثة، الأمير عبد الله، وكيركبرايد، واللواء جلوب الفضل في وجود روح الفريق من جهة، وعدم التناقض من جهة أخرى ؛ بالرغم من حالات عدم الانسجام في المواقف بين الملك عبد الله وكيركبرايد. وبالرغم من أن الملك عبد الله بقي ثوريا ووحدويا قوميا خلال جميع مراحل التطور الأردني ؛ خاصة فيما يتعلق بقضية سوريا الكبرى، وقضية اتحاد الهلال الخصيب، وقضية الوحدة العربية الشاملة ؛ إلا أنه لم يفقد حاسة الصبر والاحتمال الواقعية التي تقدر باتزان دقيق ما يمكن الحصول عليه الآن، وما يمكن أن يؤجل إلى المستقبل. وقد عبر عن حكمته وحسن إدراكه السياسي في كثير من المواقف التي مكنته من الفوز باستقلال وإقامة المملكة الأردنية الهاشمية.
واستمر هذا الحال في تقدم مستمر خلال الحرب ؛ بالرغم من مواقف التبعية المتخثرة التي اتبعها رؤساء الوزراء الأردنيين نحو الانتداب البريطاني قبل الحرب ؛ وطاعتهم الخاضعة لرغبات المعتمد البريطاني كوكس ؛ وتبعيتهم الواضحة إلى كيركبرايد خلال الحرب ؛ بقي الملك عبد الله الحامي الأمين لكرامة الشعب الأردني ومعنوياته العالية. وقد ذهب بعض رؤساء الوزارات إلى التعاون الكامل مع كيركبرايد لإحباط مواقف الأمير، ومن بعد الملك، الوطنية والقومية، وأحيانا التآمر ضد خطط الملك في قضية سوريا الكبرى. وفي مثل تلك الحالات كان إخلاصهم لبريطانيا أقوى من إخلاصهم للشعب الأردني، والأمة العربية، والملك العربي الهاشمي الذي عينهم، والذي حكموا الشعب الأردني بإرادته. ولكن، ومقارنا مع حالة عدم الاستقرار التي سادت سوريا ولبنان وفلسطين، كانت المملكة الأردنية الهاشمية مستقرة وآمنة وقوية بقيادة الملك.
كانت شرق الأردن الدولة الوحيدة التي اختارت بحرية وبتطوع منها إعلان الحرب على ألمانيا خلال المرحلة من عام 1939، إلى يوم 22 حزيران 1941 يوم كانت بريطانيا لا زالت تحارب وحدها تقريبا بعد استسلام فرنسا. وكان إعلان الحرب دون وجود تهديد ألماني مباشر ضدها، وكان أول إعلان بعد الإعلان البريطاني بيوم واحد. حتى الولايات المتحدة الأميركية، والاتحاد السوفييتي، أقوى دولتين في العالم ؛ لم تعلنا الحرب على اليابان وألمانيا، إلا بعد الهجوم عليهما واضطرارهما للدفاع عن بلادهما. وقد أعلن الأمير عبد الله بن الحسين الحرب لأنه كان يعتقد أن البريطانيين أصدقاؤه ؛ وأن التقاليد والعادات العربية تقتضي بأن لا يتخلى الصديق عن صديقه في وقت الشدة. ولم يكن إعلانه الحرب نابعا من ضغط أو حاجة معينة ؛ وفي الحقيقة أن عبد الله قد نصح من قبل بريطانيا بأن لا يعلن الحرب. ولم يكن إعلان الحرب مجرد موقف رسمي أو لفتة دبلوماسية ؛ فسرعان ما وصل الألمان إلى سوريا ؛ وأخذوا يبثون الثورة في العراق ؛ وكانوا يتقدمون نحو الحدود المصرية في شمال أفريقيا.
بإعلانها الحرب، ومحاولات الأمير عبد الله إقناع دول عربية أخرى بالانضمام إلى الحلفاء، وضعت شرق الأردن نفسها في خط الأضواء الكاشفة، وأخذت الإذاعة الألمانية، خاصة باللغة العربية، من برلين تهاجم الأمير عبد الله، وتهدده والشعب الأردني. وفي أجواء الحرب الشرسة كان التهديد حقيقيا وقريبا في سوريا ؛ وفي العراق عندما قامت الثورة. لم يتجاوز عدد الجيش العربي في ذلك الحين 1500 ضابط وجندي بما فيهم الشرطة والدرك، ولم يكن هناك أي قوات عسكرية بريطانية في الأردن، ولم تكن هناك قوات بريطانية يمكن الاستغناء عنها في فلسطين ومصر.
ولم تتجاوز شرق الأردن التهديد المباشر ضدها وحسب، ولكنها ساعدت قي إخماد الثورة العراقية عام 1941 التي كانت حكومتها الانقلابية دكتاتورية متحالفة مع ألمانيا، وشاركت في استعادة الشعب العراقي لنظامه الهاشمي، وحكم القانون والنظام الديمقراطي. كما شارك الجيش العربي الأردني بطرد قوات فيشي الفرنسية من سوريا مما أدى إلى أول الخطى المؤثرة نحو استقلالها وحريتها. وبعد ذلك شارك الجيش العربي الأردني وحتى نهاية الحرب في حماية خطوط مواصلات الحلفاء، ومؤسسات القوات البريطانية القيادية والتزويدية والحيوية من ميناء حيفا في فلسطين وحتى خانقين قرب الحدود العراقية الإيرانية. وكان الجيش العربي الأردني خلال جميع تلك المرحلة تحت قيادة القوات البريطانية.
كانت تلك شرق الأردن التي اعتقد كبار القادة البريطانيين في حكومة جلالة الملك البريطانية ؛ عند قيامها عام 1921، بأنها ستكون مزعجة أكثر من جدواها، أو أنها مياه خلفية في الأرض الحرام بين الفرنسيين في سوريا، والبريطانيين في فلسطين ؛ وأنها دولة مصطنعة غير مكتفية حلم حاكمها الوحيد مسح الحدود المرسومة باتفاقية سايكس/ بيكو. وبعد كل التضحيات التي قدمها الأردن خلال الحرب، سلمت بريطانيا سوريا إلى الفرنسيين، بدلا من تسليمها للملك عبد الله الذي ساعد في طرد قوات فيشي منها وتحريرها.
وبالإضافة إلى ذلك، وبسبب إهمال الحكومات المتلاحقة بقضايا التطور والتنمية خلال الحرب، وبسبب الضرورات الأخرى التي قرضتها الحرب، جمدت برامجها التنموية الاقتصادية والاجتماعية حتى وصلت إلى درجة الصفر وانعدام الوجود. وبالرغم من المعونات البريطانية الكبيرة التي انفقت جميعها وقسما مهما من الواردات الوطنية على المجهود الحربي، وبقيت مخصصات الميزانية للتعليم، والصحة، والزراعة، والصناعة، والتنمية الاقتصادية ترواح في موقعها المنخفض من درجات الأهمية، في وقت عصفت البلاد خلاله بارتفاع معدل التضخم وغلاء الأسعار مما لم تعرف مثله في تاريخها. وفي هذا المجال الخطير كان مستوى معيشة الشعب الأردني باستثناء عدد قليل من أغنياء الحرب التجار، من خسائر تلك الحرب.
وخلال عام 1947، أدى التسارع في الحركة نحو خلق «دولة إسرائيل الصهيونية» ؛ وإهمال مصالح المملكة الأردنية الهاشمية ؛ إلى إزعاج ضمير اللواء جلوب، والذي خلال تقاعده كتب إلى الجنرال جيمز لنت أحد قادة كتيبة المدرعات الثانية السابقين :
«كانت المأساة أن هذه البلاد ( المملكة الأردنية الهاشمية ) الدولة الوحيدة في الشرق الأوسط التي دمرت من قبل بريطانيا بعد الحرب حتى بدون مجرد استشارة، أو على الأقل اعتذار. وقد سمحت حكومة جلالة الملك البريطانية بقيام دولة إسرائيل لأسباب عديدة : اللوبي اليهودي ؛ الضغط من قبل أميركا ؛ الإنهاك والتعب من الحرب، وما شابه. ولكنها لم تعط تفكير لحظة واحدة للدولة الصغيرة التي جابهت الألمان بشجاعة عام.1940 كانت شرق الأردن مكتفية ذاتيا قبل الحرب العالمية الثانية لأنها كانت تصدر الشعير، ومنتجات زراعية أخرى عبر ميناء حيفا إلى أوروبا. وقد قطع خلق إسرائيل حبل حياتها بصعقة واحدة. ومن ثم أصبح شائعا التهجم على الأردن بأنها غير مكتفية ذاتيا، ولذلك الأفضل رميها للكلاب. والقليل من الناس الذين يدركون أن بريطانيا هي التي جعلتها غير مكتفية.