الفحيص..مسبحة المحبة ونبض الطيبين

تاريخ النشر : الأربعاء 10:52 28-5-2025
No Image

ألقيت في حفل إشهار كتاب «تاريخ الفحيص ما قبل 1950»، لمؤلفه ناهد صويص، في منتدى الفحيص الثقافي.
إنها «أسعد الساعات»، كما يقول أجدادنا الطيبين، حين يكون التئام الجمع من الأهل والمحبين، احتفاءً باستحضار ذاكرة المكان بفيض من عزم الإنسان، الذي عمّر الأرض، فأحيا بعمارتها الدروب والبيوت والأرواح والنفوس، وهذا حالنا اليوم في مقامنا هذا؛ بين يدينا كتاب «تاريخ الفحيص»، ومعنا كاتبه الذي أقدر وأجل الأستاذ ناهد فرحان الصويص، الذي بذل جهدا مقدرًا في الإحاطة بكل هذا التاريخ الثري للفحيص، المدينة التي هي دُرّة مدن الأردن حضورا، وذاكرة وتاريخا، جمعت في إهابها أمانة الأصالة، ومنارة الحداثة، فيالطيب هذا المكان، ويالزين أهله.
وأنا في قراءتي لكتاب «تاريخ الفحيص»، لست محايداً أبداً، أتصفح بياض ورقه، وسطور حبره، وفي النفس هاجس، بأن أتأمل تفاصيل الفحيص، وأن أعرفها، وأنبش تلك الذاكرة الساكنة فيها، فتارة أتتبع واقعها الآن، وما تجلى من تغيير طرأ عليها، وتارة أناجي هيكل البلدة المُتخيل، كما كانت عليه قبل فيض من السنين، كأني أمسح الغبار عن مشكاة المكان، «فاركاً» فانوسه السحري، لتخرج ربّة الحياة فيه، بلا ضجيج، وبلا صخب، بل تسبقها موسيقى الريحان، وتصحبها نثار من زهر اللوز، فتتجلى معها فضاءات البهجة العابقة بالفرح والياسمين!!
وأكتب من وحي كتاب «تاريخ الفحيص»، نصاً على نصٍّ، فهذا الحمى، بناه أهله، والشجى فخر مستمد من «زِقّ» المحبة، ومن «شكوة» الطيبة، ومن «زوادة» الكَرَم، ومن «الراوية» التي تحفظ أصالة قمح الفحيص، بينما «الكوارة» تبقى تردد: «خبزنا كفاف يومنا أعطنا يا رب».. فيا رب احفظ الفحيص.. وأدم فرَحَها، ومباهجَها، ولُحمة أهلها، ونقاء نبضها.
***
وأتذكر ما قاله الكبير الشاعر عرار، تقرباً من الفحيص:
(قسما بماحص والفحيص وبرد ماء الحمر
إني إلى تلك الربوع وحسنها المتوفر
سأظل نضو تشوق وتذكر وتحسّر)
وتحضر روح جريس سماوي، كأنه بيننا الآن نسمة بهجة وموسيقى وسلام، وهو يعصر معتق القصيد نبيذً وحباً، قائلاً:
"أقم القِرى أبتي
نادِ على الميسور
وانفخ نارك..
الضِيفان جَوعى الى جسدي
ودمي القِرى
وجراحي الميسور يا أبتي
ونارَك في ضلوعي.
***
وأنا العصي المرّ
لم آت اعتباطا
سَقَطَت على رأس الكروم الشُهب
واحتفلت بميلادي القبيلة
بأصابعي حركت غيم الروح
لمّا جف كرم أبي
بدمي سقيت النخل
وانفتحت ينابيعي على بابي
ونَفَخْت روحي في جرار الطين..».
***
إنها الفحيص الجامعة نقاء الحب بين العام والخاص، بين دلالات عنفوان عرار، وبين رقة روح جريس سماوي، وهذا الكتاب يُعبّر عن تلك القيم والرسائل التي يمثلها الشاعران الكبيران، إنه كتاب لم يُدوّن بحبر على ورق، بل نُقش بنبض القلب، وبحكايات الأولين الطيبين، وبأحداث مرت على الفحيص، وما زال ذكرها حاضراً، إنه تجليات الفينيق إذ يخبط بأجنحته على الحجارة فتنطق، ويرمي بظلال أجنحته على البيوت فتُبعث أرواح الأجداد لتستمع لما تبقى من حكايات عايشتها، وحين يمر الفينيق بعينيه الأسطوريتين على الدروب، تنهض الخطوات من تحت الإسفلت لتعود كما كانت أول مرة، تحاكي الذين مروا بتلك الطرقات، فتصطف حولهم مصاطب الدكاكين القديمة، ومزاليج أبوابها الخشبية، ومعها القصص التي نُسجت من تفاعلات البشر حين كانت السواليف مُغلّفة بنقاء القلوب، وصفاء الأرواح.
***
وأزيد قولاً، ناصحاً من يقرأ كتاب «تاريخ الفحيص:
أنت أيها المتصفح الكتاب، تَرفّق قليلا وأنت تُقلّب تاريخ المدينة بين يديك، تأنّى، تلمس السطور، مُرّ بأناة على الكلمات، واقرأ ما وراء الورق، ستَشِفّ أمامك وجوهٌ، تهشّ أرواحها اليك شوقاً للأمكنة التي فارقتها، فلا تحزن، بل ألق السلام عليها، وتآلف معها، اترك مكانك، واندمج معها في رحلة إلى معتق أزمنة كان فيها الأجداد يُنضجون الحياة على تنور الحكايات، وكانوا يحتسون نبيذ الأحداث واقعاً لاذعاً، يوما بيوم، ارتحل معهم، أنت الآن هناك، ستُنهي الكتاب، ماراً على مئات الشخصيات، وفيض من السنين العابقات، والكروم تلوّح لك بعناقيد مشتهاة.
لا تترك الكتاب، حتى وإن وصلت تاريخ منتهاه، الخمسينيات صارت امتداداً لما كان، وبداية أخرى للأبناء والأحفاد، ملامح الصور القديمة تعود بجينات كهولها، إرثا يتجلى على وجوه شباب يتحركون حولك في الفحيص الآن، يكملون سيرة المدينة، بألق وقلق، صانعين بالحضور ذاكرة مغايرة، وتفاعلات مختلفة، لتكون روحا باقية في الروضة الخضراء، الضيعة، الضاحية، بين عنفوان البلقاء، وجبال عمان.
***
ثم إنني أعيد قراءة كتاب «تاريخ الفحيص»، غير مرة، فأتمثل كل ما كتبه «ناهد فرحان الصويص»، من أحداث وحكايات وصور وشخصيات، شكلت في مجملها قصة الفحيص، منذ أقدم الأزمنة، حتى خمسينيات القرن الماضي، حشد من التفاصيل، فيض من التفاعل بين الإنسان والمكان، وبين كل هجرة وعودة إلى الفحيص، تتشكل سردية مختلفة للمدينة؛ وحين قاوموا العثمانيين، لم تُنسهم هجرتهم إلى فلسطين أرضهم، وعادوا إليها بعد أن قدّموا الشهداء، فعمّروا بيوتهم مرة أخرى.
سيخرجون في هجرة مغايرة إلى السلط، وسيعودون، سيهاجر بعض أبناء المدينة إلى أمريكا، ويرجعون كأنهم لا يطيقون عن الفحيص بعدا، وستستقبل مضافاتهم سلطان باشا الأطرش، ولن يهز قناعتهم بتراب أرضهم، لا الزلازل، ولا الغزوات، هذا ما يقوله التاريخ، ويوثقه الكتاب.
***
وأنا أقرأ الكتاب، متتبعاً كل ما فيه من تفاصيل، تستفزني كتابة «ناهد صويص»، لتاريخ الفحيص، وسيرة أهلها المحبين، فأتمثل حكايات تمسكهم بأرضهم، وإخلاصهم لها، فأقول بلسان الأجداد والأحفاد:
لا تنقصنا الحكمة.. نحن قلب هذه الأرض.. نبضها.. نحن روحُها.. وهالة القداسة التي تنتمي لها.. هنا كان البدء ولا نهاية.. كأننا مرهونون لأقدارنا التي لا تعترف بالمستحيل.. وطن تماسك حين تشظّى كلُ من حوله.. أهل نخوتهم «دم واحد».. ثالوث تماهي فيه «الآب، والابن، والروح القدس» مع النهر، والبادية، والريف، والأعالي.
وهنا في العلالي والأعالي، لنا قلم يكتبنا، «رائدنا لا يكذب أهله».. كأنه يوثّق ما كان هنا: سِفر في كتاب، أم سَفرُ في مكان.. سرادق في قصر، أو شجرة في بستان.
كل شيء مدوّن هنا، حتى بَهْجة ابنة الخوري مريم، ورحيل المهداوي، والشجرة التي تعرف ما كان قبل مئات السنين.. كان أن صار الدم عهدا أبديا، ما زلنا نحفظه كابرا عن كابر كأننا من شدة حرصنا على تراب هذه الأرض، وطيبة أهلها، وعبق التاريخ فيها، نستذكر مخطوط البشرية مذ كان البدء.. وحتى الآن.. فطوبى للفحيص حارسة المحبة، كَرمة الألفة، هيكل الحكمة.. طوبى لها على مرّ الزمان!
***
أمسك مسبحة الطيبة..
أشعر قداستها، ما ان تمس أصابعي، صدف زيتون ملامحها، وأعرف أنها من الفحيص، سلاما يضاف إلى نقاء المقيمين هناك.
أحدق فيها، حدّ التماهي معها، حدّ التخلي عن مكاني والولوج في سراديب الغيبة في النقوش المزركشة عليها، إنها بعض وجداننا المتجدد، حتى وإن تكالبت على الكلمات السنوات.
***
وفي الختام، وأنا أنهي آخر صفحات الكتاب،
ما زلت أمسك مسبحة المحبة بقلبي، فتزداد القداسة عندي، وأحمل كل إرث الفحيص معي، قارئاً ما كُتب على حبات الزيتون فيها، بخشوع، وقُرب، وتماهٍ مع الذي كتبها، وحملها، ونقش الكلمات عليها..

.alrai-related-topic { width: 100%; } .alrai-related-topic .wrapper-row { gap: 27px; flex-wrap: nowrap } .alrai-related-topic .item-row { padding-right: 1px; width: 280px; } .alrai-related-topic .item-row .item-info { padding: 15px 15px 28px 16px; border: 1px solid rgba(211, 211, 211, 1); height: 118px; } .alrai-related-topic .item-row .item-info a { color: #000; color: color(display-p3 0 0 0); text-align: right; font-family: Almarai; font-size: 15px; font-style: normal; font-weight: 800; line-height: 25px; text-decoration: none; -webkit-line-clamp: 3; -webkit-box-orient: vertical; display: -webkit-box; overflow: hidden; } @media screen and (max-width:768px) { .alrai-related-topic .wrapper-row { flex-wrap: wrap } .container .row .col-md-9:has(.alrai-related-topic) { width: 100%; } .alrai-related-topic { margin-top: 10px; } .alrai-related-topic .item-row { width: 100%; } }
.alrai-culture-art-widget{border-right:1px solid #d9d9d9;padding-right:11px}.alrai-culture-art-widget .title-widget-1 a{color:color(display-p3 0 .6157 .8745);text-align:right;font-family:Almarai;font-size:24px;font-style:normal;font-weight:800;line-height:39px;text-decoration:none;padding-bottom:5px}.alrai-culture-art-widget .title-widget-1{margin-bottom:26px}.alrai-culture-art-widget .title-widget-1::after{content:"";position:absolute;left:0;right:0;bottom:0;background:linear-gradient(90deg,rgba(0,85,121,.05) 0,#009ddf 100%);z-index:1;height:3px;width:100%}.alrai-culture-art-widget .img-row{width:100%}.alrai-culture-art-widget .img-ratio{padding-bottom:58%}.alrai-culture-art-widget .item-info{padding:23px 0}.alrai-culture-art-widget .item-info a{color:#000;color:color(display-p3 0 0 0);text-align:right;text-decoration:none}.alrai-culture-art-widget .item-row:not(:first-child)>a{display:none}.alrai-culture-art-widget .item-row a{color:#000;color:color(display-p3 0 0 0);text-align:right;text-decoration:none;-webkit-line-clamp:3;-webkit-box-orient:vertical;display:-webkit-box;overflow:hidden}.alrai-culture-art-widget .item-row:not(:last-child){border-bottom:1px solid #d9d9d9}@media screen and (min-width:1200px){#widget_1703 .alrai-culture-art-widget{border-right:0px;padding-right:0}}
.alrai-epaper-widget{margin-top: 20px; max-width:250px}
Tweets by alrai
.alrai-facebook-embed{margin-top: 70px;}
#widget_2097 .alrai-section-last-widget {padding-top:35px;margin-top:0;} .alrai-section-last-widget .row-element .item-row .img-ratio{ display:flex; } /* Horizontal scroll container */ .alrai-section-last-widget .full-col { overflow-x: auto; overflow-y: hidden; -webkit-overflow-scrolling: touch; width: 100%; } /* Flex container - critical changes */ .alrai-section-last-widget .content-wrapper { display: flex; flex-direction: row; flex-wrap: nowrap; /* Prevent wrapping to new line */ align-items: stretch; width: max-content; /* Allow container to expand */ min-width: 100%; } /* Flex items */ .alrai-section-last-widget .item-row { flex: 0 0 auto; width: 200px; /* Fixed width or use min-width */ margin-right: 7px; display: flex; /* Maintain your flex structure */ flex-direction: column; } /* Text handling */ .alrai-section-last-widget .article-title { white-space: nowrap; /* Prevent text wrapping */ overflow: hidden; text-overflow: ellipsis; display: block; } /* Multi-line text truncation */ .alrai-section-last-widget .item-row .item-info a { display: -webkit-box; -webkit-line-clamp: 3; -webkit-box-orient: vertical; overflow: hidden; white-space: normal; /* Allows line breaks for truncation */ } /* Hide scrollbar */ .alrai-section-last-widget .full-col::-webkit-scrollbar { display: none; } @media screen and (min-width:1200px){ .alrai-section-last-widget::after { transform: translateX(0); } } @media screen and (max-width: 768px) { .alrai-section-last-widget .row-element .content-wrapper { flex-direction: row !important; } .alrai-section-last-widget::after{ transform: translateX(100%); right:0; left:0; } }
.death-statistics-marquee .article-title a,.death-statistics-marquee .title-widget-2 a{text-align:right;font-family:Almarai;font-style:normal;font-weight:700;line-height:25px;text-decoration:none}.death-statistics-marquee .breaking-news-wrapper{width:100%;display:flex}.death-statistics-marquee .breaking-news{background-color:#7c0000;padding:22px 17px 24px 18px;color:#fff;text-align:right;font-family:Almarai;font-size:22px;font-weight:700;line-height:25px}.death-statistics-marquee .breaking-news-content{background-color:#b90000;padding:22px 18px 24px 21px;color:#fff;text-align:right;font-family:Almarai;font-size:22px;font-weight:700;line-height:25px;width:100%;position:relative}.full-container .marquee-container-widget:not(.relative-widget) .wrapper-row{position:fixed;width:100%;right:0;bottom:0;z-index:100000}.death-statistics-marquee .marquee-container-widget .title-widget-2{width:75px;background-color:#757575;color:#fff;height:60px;display:flex;align-items:center;justify-content:center}.death-statistics-marquee .title-widget-2 a{color:#fff;color:color(display-p3 1 1 1);font-size:15px;padding:16px 18px 16px 15px;display:block}.death-statistics-marquee .content-row:not(.content-row-full){width:calc(100% - 100px);background-color:#000}.death-statistics-marquee .content-row marquee{direction:ltr}.death-statistics-marquee .content-row .img-item{display:inline-flex;height:60px;align-items:center;vertical-align:top}.death-statistics-marquee .content-row .article-title{height:60px;display:inline-flex;align-items:center;color:#fff;padding:0 15px;direction:rtl}.death-statistics-marquee .article-title a{color:#fff;color:color(display-p3 1 1 1);font-size:17px}.death-statistics-marquee .title-widget-2{width:100px}#widget_1932{position:static;bottom:0;width:100%;z-index:1}