يرتبط الحديث عن كتاب «جماليات النص الشعري.. دراسات نقدية في الشعر الأردني المعاصر» للدكتور أنور الشعر بما يسمى بنقد النقد الذي يعدّ من أكثر المباحث صلة بنظرية النقد الحديث وجمالياتها، حيث الحديث عن رصد الرؤية والموقف، والكشف عن المنهج النقدي، وبيان جدوى الإجراءات النقدية والنتائج المتوقعة.
أحاول في هذه القراءة للكتاب القيام بقراءة موجهة لقراءة أخرى من خلال نشاط تأويلي يوسّع من أفق القراءة ويسمح بتعدد وجهات النظر والاجتهادات وفق ممارسة نقدية قادرة على التفسير والتحليل والتعليل أيضًا.
ونقد النقد دائرة مهمة من دوائر الحوار مع النصوص الشعرية التي تناولها الكتاب من جهة، ومع رأي الناقد الدكتور أنور الشعر من ناحية أخرى، وهذا يعني أن ثمة نشاط فكري موجّه نحو النصوص الشعرية وما قيل فيها من نقد.
يتكون الكتاب من خمس دراسات نقدية لخمسة شعراء أردنيين تنوعوا في الاتجاه الشعري، والفكري أيضًا، وهذا يقتضي بالضرورة تنوّع المنهج، وتعدد النتائج النقدية. الأمر الذي يؤدي إلى توسيع أفق القراءة واستخلاص الأحكام النقدية وفق اختيارات المتلقي وقدراته التأويلية.
الدراسة الأولى التي حاول الناقد أنور الشعر سبر أغوارها هي تجليات المدينة في شعر إبراهيم الكوفحي، وهي دراسة نقدية ذات صبغة جمالية تستند إلى ما يحققه المكان في نفوس محبيه من قوة تصويرية ترجمها الشاعر الكوفحي شعرًا وحنينًا لا ينقطع.
تشير الدراسة إلى تنوع المكان في شعر الكوفحي، فنجد المكان الملهم ذا الطبيعة النفسية المحفزة على قول الشعر، إذ شكلّت مدينة إربد مكانًا خاصة في شعر الشاعر، فهي منبع الأحلام، والأم الرؤوم، ويرى الدكتور أنور الشعر أن أسلوب الكوفحي في علاقته بإربد يقوم على شعريّة الجملة الواحدة، حيث يستند في فهمه لأشعاره إلى تحليل الأساليب اللغوية، وبناء الجملة، والدلالة المنتجة للمعنى، إذ يُشير إلى توظيف الشاعر لاسم الفعل الماضي( هيهات)، وأسلوب الانزياح اللغوي الذي يعد من مولدات الشعريّة في النص الإبداعي.
ويجعل الباحث من عمّان مدينة مركزيّة في شعر الكوفحي، ظهرت في صورة المعشوقة، إذ استند الباحث إلى اللغة من جديد في إبرازه لجمالية عمّان في قصائد الكوفحي، حيث درس أسلوب التكرار في شعره وإنتاجيته للمعنى، كذلك أسلوب النداء بتشكلاته الجماليّة وقوته التصويرية؛ فضلاً عن الإشارة إلى الناحية الموسيقية المرتبطة بعلاقة الشاعر العشقيّة بعمّان.
أمّا المكان المقدس في شعر الكوفحي فكان واضحًا في قصائده التي نظمها في القدس الشريف ومكة المكرمة، حيث تبدّت روحانية المكان، وتعالقاته الجماليّة التي أفرزت جانبًا تصويريًّا مهمًا في شعر الكوفحي، حيث يظهر التوظيف التراثي وطابع المقاومة الذي تمثله القدس في الشعر العربي الحديث، والذي عمّق منه مؤخرًا دور مدينة غزة البطولي في مواجهة المحتلّ.
وفي مجمل هذه المشهدية المكانية يتأكد موقف الباحث من المكان في شعر الكوفحي الذي يقوم على الإيجابية والأسلوب الفني المستند إلى النظرة الجمالية ذات الطابع التراثي، إذ يرى الباحث » أن الشاعر الكوفحي مواكب لأحدث النظريات النقدية، فيحاول الاقتراب من رؤيا الحداثة في الشعر رغم أن جلّ قصائده وفق نظام الشطرين، فالحداثة كما يرى الدكتور أنور الشعر ليست بالشكل فقط إنما هي رؤية وتعبير.
وقد نتفق أو نختلف معه في مفهوم الحداثة وتجلياتها في شعر الشاعر، وذلك لتعدد مفاهيم الحداثة عند النقاد والمفكرين وفق اتجاهاتهم الفكرية وثقافتهم. وهكذا فإن النقد استجابة للنص المُبدع المُعبر عنه باللغة المؤثرة، ذلك أن التأثير هو الذي يستفز الناقد ويحفزه لينحت من لغة النص نصًا آخر في سياق إبداعي آخر.
الدراسة الثانية في الكتاب، جاءت بعنوان «جماليات التعبير الفني في المجموعة الشعرية (هذا أنا المجنون... قال) لعبدالله رضوان» وهنا يضعنا الباحث أمام سؤال نقدي مهم: ما دور التقنيات الفنية والأساليب اللغوية والبلاغية في تشكيل النص الشعري؟ وبخاصة أن هذا الديوان الشعري هو آخر نتاج الراحل عبدالله رضوان.
اقترب الباحث من المنهج السيميائي في دراسته لعتبات الديوان: العنوان، والإهداء، والثنائيات اللغوية؛ ليوغل بعد ذلك في التحليل النصي الجمالي وصولاً لثنائية الحبيبة/ الوطن التي ترتسم في معظم دواوين الشاعر، وكأنها مبعث الأفكار ومستقر الأحلام.
اتسمت لغة الباحث النقدية بالهدوء والسلاسة، فضلاً عن الدقة في استخدام الألفاظ والتراكيب، حيث التكثيف اللغوي والمعاني المشبعة بالعاطفة الإنسانية، والقوة التعبيريّة الكاشفة عن المعنى.
جاءت الدراسة النقدية الثالثة في الكتاب بعنوان :» الزمن المهيمن في الشعر الأردني المعاصر ديوان » أزرق ممّا أظن» للشاعر علي الفاعوري أنموذجًا» وهي دراسة مهمة لأسباب عديدة، منها أنها كاشفة للمعنى الشعري المتضمن في الزمن، وهي معنى شفيف يخرج من إطار اللغة الظاهر ليتلبس بقوة المنطق، وإيحائية الفكر الفلسفي، وهي من ناحية أخرى دراسة لشاعر أردني استطاع أن يحقق حضورًا مهمًا في الساحة الشعرية العربية خلال وقت قصير؛ لجماليّة شعره، وبراعته الفنية في صياغة أفكاره شعرًا، فالفاعوري أصيل في حبّه، ووجده الدافق، ووطنيته الصادقة، صاحب رؤية إنسانية تلامس الجمال، وتغوص في أعماق النفس.
لقد حاول الباحث الوصول إلى حكم نقدي يربط الزمن بالتشكيل اللغوي في شعر الفاعوري» وما يُميّز الزمن الخارجي عن الزمن الداخلي في القصيدة أن الزمن الخارجي زمن واقعي معيش نراه، ونسمعه، أما الزمن الداخلي فهو زمن افتراضي متخيّل، وإن تحدّث عن أحداث واقعية، فيغلب عليه التخييل'( جماليّات النص الشعري، ص146).
أمّا الدراسة الرابعة فجاءت بعنوان النزعة الإنسانية في شعر مريم الصيفي، إذ ينطلق الباحث كما في دراساته السابقة من التقنيات الفنية، والأساليب اللغوية والبلاغية وصولاً إلى النزعة الإنسانية التي برزت في شعر الشاعرة مريم الصيفي، إذ لم تنفصل النزعة الإنسانية عن حبّ الوطن، ومقاومة المحتلّ والبحث عن الحرية، ونصرة الضعفاء، والحنين للوطن والحلم معًا.
يقترب الباحث في هذه الدراسة من المنهج الاجتماعي الذي يُعلي من قيم الالتزام في الشعر، ويجعل من مقاومة قوى الشر والطغيان جهادًا مقدسًا، مبرزًا روحًا ثائرة على كلّ ما يشوه الحقيقة، والقيم الإنسانية النبيلة. وهنا يلتقي حسّ أنور الشعر الناقد بوجده الشعري، فهو شاعر يسمو بالألم، ويتعالى برفض الظلم، وهذا يجعل من الشعر عند مريم الصيفي صورة أخرى من صور الرفض، واستجابة للواقع بكلّ تفاصيله المريرة.
جاءت الدراسة الخامسة في كتاب الدكتور أنور الشعر تحمل ثنائية مهمة طالما عانقت رؤى الشعر، وجوهر الإبداع في شعر الشاعر الأردني نضال القاسم، وهي ثنائية الوطن المنفى، وذلك للكشف عن رؤيته للكون والوطن والإنسان، إذ عمد الباحث لاستنطاق قصائد الشاعر ومحاورتها محاورة أسلوبية ذات قيم جمالية واضحة.
وفد خلص الباحث إلى أن شعر نضال القاسم ينهج نهجًا حداثيًّا بخروجه على القصيدة العمودية، واستعماله لغة الكلام اليومي، والأسطورة، والرمز، والقناع، والتراث العربي والعالمي، فضلاً عن وضوح الفكرة في شعره. وهذا جعل شعره أكثر تأثيرًا في المتلقي عقليًّا وشعوريًّا، يعمل على الارتقاء بأحاسيسه ووعيه متسلحًا بخبرات الحياة وإيمانه بالعودة إلى الوطن المحتلّ.
يبقى كتاب( جماليات النص الشعري دراسات نقدية في الشعر الأردني المعاصر) للدكتور أنور الشعر محاولة نقديّة للوقوف على تجارب شعريّة متعددة الرؤى، ومتفاوتة في قدرتها على التشكيل الفني، لكنها في مبناها ومعناها تمثل مرحلة مهمة من مسيرة الشعر الأردني المعاصر.
متعة التلقي والتأويل في كتاب «دراسات نقدية في الشعر الأردني المعاصر»
12:18 27-5-2025
آخر تعديل :
الثلاثاء