تواجه المملكة الأردنية الهاشمية تحديات كبيرة في ملف المياه منذ سنوات، بل منذ عقود، غير أن العام الأخير كان بمثابة ناقوس خطر حقيقي، إذ شهدت المملكة أحد أسوأ مواسم الجفاف منذ عقود. وقد أدى تناقص معدلات الهطول المطري بشكل حاد، إلى تراجع منسوب المياه في السدود والينابيع، وفاقم الضغط على المصادر المحدودة غير المتجددة أصلاً كالمياه الجوفية في بلد يُعد من أكثر دول العالم فقراً بالمياه، أو يكاد، وانخفضت حصة الفرد السنوية من المياه الى حدود متدنية مقلقة.
في ظل هذه الظروف الحرجة، لم يعد الحديث عن ترشيد استهلاك المياه مجرد خيار بيئي أو مسؤولية فردية، بل بات ضرورة وطنية لا بد منها لضمان استمرارية الحياة الكريمة، والاستعداد لسنوات أكثر صعوبة إذا استمر التغير المناخي في التأثير على أنماط الطقس وارتفاع معدل درجات الحرارة وتفاوت الهطول في المنطقة.
يعاني الأردن من شُح مائي هيكلي يرتبط بطبيعة جغرافيته الصحراوية ومناخه الجاف، إلا أن الأزمة تفاقمت بفعل عدة عوامل مترابطة، حيث باتت فصول الشتاء أقصر، ومعدلات الهطول أقل، والأمطار تتركز في أيام معدودة بعواصف شديدة يصعب الاستفادة منها بالشكل الأمثل، بل تضر بالزراعة وتؤدي الى انجراف التربة، فضلا عن أنه يتم فقدان كميات كبيرة بالتبخر.
والزيادة المستمرة في عدد السكان، نتيجة الهجرة والسياحة والوافدين واللاجئين والنمو الطبيعي، زادت الضغط على المصادر المائية المحدودة. حيث استقبل الأردن ملايين اللاجئين خلال السنوات الماضية، مما رفع الاستهلاك دون توسع موازٍ في البنية التحتية للمياه والحصاد المائي. فيما ما زالت نسبة كبيرة من المياه تُفقد في الشبكات بسبب التسربات تحت الارض، إلى جانب أنماط استهلاك غير رشيدة لمياه الري في بعض القطاعات، خاصة الزراعية منها والتي تستهلك الكمية الاعظم من المياه بحيث رغم فقرنا للمياه ما زلنا نصدر المياه عبر تصدير البن?ورة والخيار وغيرهما.
ففي سنة الجفاف، يصبح ترشيد المياه واجباً وطنياً وأخلاقياً ودينياً. فالماء حق مشترك للجميع، ولا يملك أحد ترف إهداره، لا سيما حين تُواجه البلاد احتمال النقص الحاد في التزود بالمياه خلال الصيف. فالترشيد لا يعني فقط تقليل الكمية المستخدمة، بل تحسين إدارتها وتوجيهها للاستخدامات ذات الأولوية وبحصافة.
فترشيد المياه يسهم في تقليل الضغط على الموارد الطبيعية المحدودة، وتقليص كلفة التزويد المائي، خاصة مع الاعتماد على محطات التحلية والنقل البعيد مستقبلا من التحلية في مشروع قناة البحر الاحمر في العقبة مع البحر الميت.
كما يسهم ترشيد استهلاك المياه في تأخير اللجوء إلى إجراءات طارئة مثل تقنين أشد من السابق في التوزيع أو خفض قوة الضخ أكثر. كما يسهم في تعزيز العدالة في توزيع المياه بين المحافظات والشرائح السكانية المختلفة وأنماط الانتاج والقطاعات الخدماتية.
وعلى المواطنين مسؤوليات ايضا، عبر اعتماد سلوكيات بسيطة مثل إصلاح التسربات في منازلهم وحدائقهم، واستخدام أدوات ترشيد المياه، وتقنين استخدام المياه في الغسيل والري، وتجنب غسل السيارات أو الأرصفة بالماء، وإصلاح عوامات خزانات المياه، وما الى ذلك. ويجب أن يصبح ذلك تحت طائلة المخالفة لوقف هذا الهدر غير المسؤول.
وعلى الحكومة تكثيف حملات التوعية، وتحسين البنية التحتية، والتوسع في صيانة الشبكات الارضية، وضبط الاستخدام غير المشروع للمياه، وإدخال تقنيات جديدة للري في الزراعة، وفرض نمط انتاج زراعي مرتبط بشح المياه.
وعلى المؤسسات التعليمية أيضا القيام بدور تثقيفي فاعل لترسيخ ثقافة المحافظة على الماء في نفوس الأجيال الجديدة. وعلى القطاع الخاص واجبات مماثلة من خلال تبني تقنيات صديقة للبيئة في المصانع والمرافق السياحية، والمشاركة في دعم مشاريع تنقية وإعادة استخدام المياه وتطوير استخدامات المياه الرمادية وتحلية مياه المسوس وغيرها..
خلاصة القول؛ إن التحديات المائية في الأردن ليست مؤقتة، بل متجذرة، وتحتاج إلى تحرك جماعي دائم. والجفاف الأخير كان تذكيراً قاسياً بمدى هشاشة الوضع، لكنه أيضاً فرصة لإعادة تقييم علاقتنا بالماء. اذ إن ترشيد استهلاك المياه ليس شعاراً فضفاضاً، بل فعل مقاومة للبقاء، ومسؤولية وطنية تحتم علينا التكاتف اليوم قبل أن تفرض الطبيعة كلمتها غداً بلا رحمة.