رغم التوقعات المتشائمة التي سادت مطلع الربع الأخير من عام 2024 نتيجة تداعيات حرب غزة وتراجع مستويات الإنفاق، فاجأ الاقتصاد الأردني الجميع بتحقيق زيادة في الإيرادات الضريبية بلغت 165 مليون دينار مقارنة بعام 2023.
هذه الزيادة لم تكن نتيجة رفع للضرائب أو توسع في الجباية، بل جاءت نتيجة إجراءات حكومية تحفيزية اتخذت في توقيت حساس، شملت إعفاءات ضريبية وجمركية هدفت إلى تنشيط السوق وتحفيز القطاعات الإنتاجية.
المفارقة هنا أن هذه الإعفاءات، التي يُفترض أن تقلل الإيرادات على المدى القصير، أسهمت فعلياً في توسيع القاعدة الضريبية من خلال تحفيز النشاط الاقتصادي، وهو ما يعكس فاعلية التوجهات الاقتصادية المرنة مقارنة بالسياسات التقليدية الانكماشية.
فقد سجّل الناتج المحلي الإجمالي نمواً بنسبة 2.7% خلال الربع الرابع من عام 2024، متجاوزاً التقديرات السابقة التي توقعت نمواً عند 2.5%. هذا الأداء يفوق أيضاً معدل النمو السنوي الذي بلغ 2.5%، ما يشير إلى تسارع نسبي في النشاط الاقتصادي خلال نهاية العام. هذا النمو الاقتصادي أتى مدعوماً أيضاً بتجاوز الاحتياطات الأجنبية للبنك المركزي 21 مليار دولار، وانخفاض معدل الدولرة إلى 18.4% في نهاية عام 2024، فضلاً عن انخفاض معدل التضخم إلى 1.6% وتوقع استقراره حول 2% في العام 2025.
هذا النمو الاقتصادي يأتي رغم استمرار الظروف الإقليمية المضطربة، ما يعكس قدرة الاقتصاد الوطني على امتصاص الصدمات وتحقيق أداء مستقر. فالقراءة الأولية لهذه الأرقام تُظهر عدة مؤشرات إيجابية، لكن التحليل الأعمق يكشف عن تحولات بنيوية بدأت تظهر في هيكل الاقتصاد، خاصة في ما يتعلق بمصادر النمو. إذ لم يأتِ هذا التحسن مدفوعاً بطفرة استهلاكية أو بزيادة إنفاق حكومي مباشر فقط، بل عبر تحسن ملحوظ في أداء القطاعات الإنتاجية أيضاً، ما يعكس نجاحاً جزئياً في إعادة توجيه النمو نحو قطاعات أكثر استدامة.
القطاع الزراعي كان مفاجأة الربع، بتحقيقه نمواً بنسبة 8.4%. هذه القفزة تفتح باب النقاش حول إمكانية إعادة إحياء هذا القطاع، الذي ظل لعقود مهمشاً لصالح قطاعات خدمية، رغم أهميته في تحقيق الأمن الغذائي وتقليل الاعتماد على الواردات. هذا النمو قد يعود إلى دعم السياسات الحكومية، لكن استدامته مرهونة بالتحول إلى نماذج إنتاجية أكثر كفاءة وربحية.
الصناعات التحويلية، التي نمت بنسبة 4.9%، لا تزال تمثل عماداً أساسياً للناتج المحلي، وقد سجلت أعلى مساهمة في النمو بـ0.9 نقطة مئوية. هذه النتيجة تؤكد أن الصناعة بدأت تتعافى، ربما بدعم من تحسن سلاسل التوريد أو برامج الحوافز التي أطلقتها الحكومة، لكنها في الوقت نفسه تتطلب استمرار الاستثمار في التكنولوجيا وزيادة القيمة المضافة محلياً خاصة مع التحولات الأخيرة في السياسات التجارية العالمية بعد فرض الادارة الاميركية التعرفة الجمركية الجديدة على الاردن.
القطاعات الاستخراجية والكهرباء والمياه أظهرت أيضاً نمواً مستقراً، ما يعزز فكرة أن القطاعات التقليدية بدأت تعود إلى دورها في دعم النشاط الاقتصادي. من جهة أخرى، القطاعات الخدمية أظهرت نمواً مقبولاً، لكنه دون الزخم المطلوب، خصوصاً في قطاع السياحة والمطاعم، الذي سجل نمواً بنسبة 3.1% فقط، رغم استقرار الوضع الوبائي وتحسن نسبي في حركة السياحة.
التحليل الهيكلي لمساهمة القطاعات يُظهر أن القطاعات السلعية ساهمت بـ1.6 نقطة مئوية من إجمالي النمو، مقابل 1.1 نقطة فقط للقطاعات الخدمية. هذا التوزيع يمثل مؤشراً مهماً لبنية الاقتصاد، ويشير إلى إمكانية الابتعاد التدريجي عن الاعتماد المفرط على الأنشطة الخدمية التي غالباً ما تكون أكثر هشاشة تجاه الصدمات الخارجية.
من حيث الوزن النسبي، تظل الصناعات التحويلية الأعلى مساهمة في الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 18.7%، تليها الخدمات المالية والعقارية بـ17.2%. ورغم أهمية هذه الأرقام، إلا أنها تطرح تساؤلات حول عمق التكامل بين هذه القطاعات، ومدى قدرتها على خلق فرص عمل حقيقية ومستدامة.
تُظهر نتائج الربع الأخير من عام 2024 أن الاقتصاد الاردني يسير في اتجاه إيجابي ويثبت أن التفكير الاقتصادي الصحيح قادر على تحفيز الاقتصاد، لكنه لا يزال بحاجة إلى تسريع الإصلاحات الهيكلية، وتنويع مصادر النمو، وتعزيز التنافسية. فالنمو المتحقق، وإن كان إيجابياً، يظل محدوداً إذا لم يُترجم إلى تحسين في مستوى المعيشة، وزيادة في الإنتاجية، وتوسيع في قاعدة التشغيل!
رئيس قسم الاقتصاد - الجامعة الاردنية