أتذكر عندما كنت مزعجًا خلال البحث عن المعلومة بين أروقة المكاتب الرسمية بأسئلتي اللجوجة للإدلاء بتصريح لأصنع خبرًا خاصًا لصحيفتي دون غيرها (انفرادًا)، لأسعد مديري، في هذا الأثناء يدق هاتفي من ذات المدير بتنبيهاته الأخيرة لتسليم التحقيق الصحفي أو التقرير الذي أعمل على إعدادهما، بجانب رسائل مدير التحرير حول عدم اجتياز مقالي مقصلة الحرية، وعند العودة لمكتبي محملاً بجعبة من المعلومات، أضعها على مكتبي الحزين بأدواته المبعثرة.. منفضة «مكتة» تستغيث من مخلفات السجائر، وأوراق لا تعرف عمرها ومتى ستكون في سلة المهملات لتدويرها، ورسومات دائرية رسمها فنجان قهوتي كعلامة مسجلة لمكان يعج بالصحفيين.
مشهد يبدو أنه تحول إلى ذكرى غابرة في أروقة الزمان، تتراقص حزنًا في مخيلتي، أثناء غناء هاتفي المحمول طربًا على تنبيهات «ChatGPT» لإعلان عن انتهاء مسودة التحقيق الصحفي عن أزمة الوقود بأسئلته وتحليلاته الإحصائية والصور المقترحة حول هذه القضية، وعناوين مقترحة دون بذل أي جهد مني.. وكذلك قائمة بأفكار لمقالات حصلت على «ترند» على جميع مواقع التواصل الاجتماعي، مع محاور مقالي القادم، كل ذلك بكبسة زر.. والسؤال: هل نحن أمام ثورة... أم استسلام؟
من كان سيعتقد أن الصحافة، مهنة المتاعب، تتجه لأن تكون مهنة «الراحة والبسكوت» بفضل الذكاء الاصطناعي؟ في الوقت الحاضر، لا ينبغي على الصحفي القلق بشأن عدم الوفاء بالمواعيد النهائية لتسليم أخباره وتحليلاته أو مقالاته أو البحث عن مصدر.. الذكاء الاصطناعي سعيد للغاية بكتابة القصة وتحريرها وربما حتى التوقيع عليها (الصحفي روبوت بن الحاج جي بي تي).
منصة مثل «ChatGPT» تكتب تقريرًا صحفيًا أسرع من قدرتك على إعداد فنجان من القهوة؛ في حين أن أدوات مثل «Google Trends» و'Dataminr» تستخرج القصة من الإنترنت، فتجد الصحفيين أمام أكثر العناوين استخدامًا قبل أن يفتحوا دفاترهم، فيما يتعلق بتدقيق المعلومات والقواعد الإملائية، لا داعي للذعر حيث يوجد «Grammarly» و'Hemingway Editor» للتأكد من عدم وجود أخطاء في المعلومات والقواعد الإملائية والنحوية.
ثورة الخوارزميات أو الوحش التقني أو قاتل الإبداع، كما يحلو لك أن تسميها.. قادرة على سحب المعلومات من مصادر متنوعة، ودمجها، ثم تقديم سرد محايد دون انحياز معين، والميزة الرئيسية للذكاء الاصطناعي أنه ليس لديه تحيز، على الأقل بشكل علني، لكن هل يمكن لخوارزمية أن تفهم تعقيدات السياسة أو تعرف الشكوك في خطاب سياسي؟ ربما، لكن لا تتراهن على ذلك لغاية الآن! على الرغم من أن الذكاء الاصطناعي لا يزال يقوم بأشياء غبية مثل خلط الحقائق بالشائعات أو إعداد تقارير بلا أي لمسة إنسانية، لكن الأسوأ أنه لا يعرف كيف يصنع سبقًا حصريًا الذي نسيمه بلغتنا «انفراد» دون طلب زيادة على راتبه.
أخبرني زميل ساخط: «الذكاء الاصطناعي سيحل محل الصحفي الكسول، لكنه لن ينافس الصحفي الذي يشم رائحة الخبر تحت أنف السياسي، أو الصحفي الذي طوع هذا الذكاء ليجعله أداة مساعدة»، ربما يكون محقًا... لكنني أخشى أن تتحول المهنة إلى سباق بين من يضغط زر «Generate» أسرع!
الذكاء الاصطناعي ليس عدوًا ولا منقذًا... إنه مرآة، إذا استخدمناه لنقل الأخبار كالببغاوات، فسنخسر، أما إذا جعلناه يشتغل كـ'مساعد تحرير» بينما نحن ننقب عن القصص التي لا تكتشف بالخوارزميات... فربما نستحق فنجان قهوة أخيرًا قبل أن يبتلعنا الزمن! لكن... لن ننسى أن «الروبوت» لا يشرب القهوة؟
لن يستبدل الذكاء الاصطناعي الصحافة، لكنه سيجعل الصحفيين أكثر كفاءة إذا استطعنا مواكبته وجعله أداة متطورة في تجويد عملنا وتسريع تميزنا، فالنجاح أن نستغل الذكاء الاصطناعي كمساعد وليس بديلاً، وإلا سنصبح جميعًا عاجلاً أم آجلًا نقرأ افتتاحية لمقال كتب تحت اسم «روبوت محرر أول».