في ظل تصاعد تطرف الحكومة الإسرائيلية والعمليات العدوانية لجيش الاحتلال في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ما تزال المشاهد المروّعة للدمار والضحايا المدنيين تهزّ الضمير العالمي، لكن بموازاة المأساة الإنسانية فإن التأثير العميق وفي المدى البعيد لهذا الصراع يلقي بظلاله على الاستقرار الإقليمي لمنطقة الشرق الأوسط، التي تعتبر بؤرة توترات جيوسياسية مهددة باستمرار بانتشار موجات متتابعة من العنف والنزاعات المسلحة وانتقالها إلى مناطق مجاورة وتعقّد فرص وآفاق السلام لعقود قادمة.
فمنذ عام 1948، شكل الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني أحد أبرز أسباب عدم الاستقرار في المنطقة، لكن التصعيد الأخير، الذي يُوصف من قبل منظمات حقوقية دولية بأنه «حرب إبادة» بسبب الاستخدام المفرط وغير المسبوق للقوة ضد المدنيين وتدمير البنى التحتية الحيوية، أعاد المنطقة إلى حافة الهاوية، فوفقاً لتقارير الأمم المتحدة، فإن أكثر من 70 ألف فلسطيني استشهدوا في السنوات الأخيرة، بينهم آلاف الأطفال والنساء، فيما يُعتبر أحد أعلى معدلات الضحايا في النزاعات الحديثة.
بالنسبة للشعب الفلسطيني الصامد على ارضه والمتمسك بحقوقه المشروعة بالحرية واقامة دولته المستقلة على ترابه الوطني وعاصمتها القدس الشرقية، لا تقتصر الكارثة على الخسائر البشرية، بل تمتد إلى تهجير مئات الآلاف من الفلسطينيين وتطلع حكومة الاحتلال ومسانديها من الدول الغربية الى تهجير الملايين، مما يخلق أزمات لجوء متجددة تثقل كاهل دول المنطقة وفي مقدمتها الأردن ومصر، هذه الأوضاع تُغذي مشاعر الغضب والإحباط ليس فقط بين الفلسطينيين، بل أيضاً لدى شعوب المنطقة التي ترى في الصمت الدولي تجاه انتهاكات حكومة الاحتلال المتطرفة تواطؤاً يضفي شرعية على الابادة الجماعية التي تمارسها بحق الشعب الفلسطيني الاعزل، هنا، تُحذّر دراسات استراتيجية من أن استمرار القمع قد يُعيد إنتاج بيئة خصبة لانبعاث وتجنيد الجماعات المتطرفة، التي تستغل المعاناة الفلسطينية كأداة دعائية لتعزيز نفوذها وشعبيتها وامتدادها عبر دول وشعوب المنطقة.
على الصعيد السياسي، تُعمّق الحرب من الانقسامات في العالم العربي والمنطقة بشكل عام، فبينما يحاول بعض الفاعلين الدوليين دفع الحكومات لتطبيع العلاقات مع إسرائيل بدعوى تعزيز الأمن الاقتصادي، تُواجه حكومات اخرى ضغوطاً شعبية رافضة للتخلي عن القضية الفلسطينية أو المساومة على حقوق الشعب الفلسطيني، وبطبيعة الحال يؤدي هذا الانقسام الى اضعاف الجهود الدولية والتضامن العربي ويُعطّل أي جهد جماعي لحلّ الأزمة، في المقابل، تستفيد قوى إقليمية مثل إيران وغيرها من الوضع لتعزيز دورها كـ«مدافع عن المظلومين»، مما يزيد من حدة التنافس بين المحاور الجيوسياسية، ويهدد بمواجهات غير مباشرة قد اشعلت حروباً بالوكالة وقد نرى المزيد منها في حال استمر سلوك دولة الاحتلال العدواني ضد الفلسطينيين وكذلك ضد دول الجوار.
الاقتصاد الإقليمي ايضا لم ينج من تداعيات التطرف الإسرائيلي، فاستمرار الصراع يُرهن الموارد المالية للدول العربية لعمليات الاستعداد العسكري والداخلي للسيناريوهات الاكثر سوءا وفي دعم اللاجئين وإعادة الإعمار، بدلاً من استثمارها في مشاريع تنموية، كما أن عدم الاستقرار يُثبّط الاستثمارات الأجنبية ويُعطّل اتفاقيات التعاون الاقتصادي بين دول المنطقة، التي تحتاج إلى التكامل لمواجهة تحديات الاوضاع الاقتصادية والمعيشة الصعبة ومعالجة القضايا المتعلقة بالفقر والبطالة.
يُلام المجتمع الدولي، وخاصة اللاعبون المؤثرون في الساحة الدولية وفي الدول الغربية، على ازدواجية المعايير في التعامل مع الأزمة، فالتبني الأعمى للرواية الصهيونية الزائفة واستخدام الفيتو الأمريكي المتكرر ضد قرارات مجلس الأمن التي تدين إسرائيل يُضعف مصداقية النظام الدولي ويُرسخ شعوراً بالظلم لدى العرب والمسلمين، وفي الوقت نفسه، تُظهر تحركات دول مثل جنوب إفريقيا في محكمة العدل الدولية لمحاسبة إسرائيل على انتهاكاتها أن الأصوات المناهضة للاحتلال آخذة في الانتشار، وإن كانت لا تزال محدودة التأثير.
إن استمرار العدوان الاسرائيلي على الشعب الفلسطيني ومقدراته وبناه التحتية وتعدد اشكال هذا العدوان وانواعه لن يجلب أمناً لأحد وإنما يجعل من القضية الفلسطينية ليست مجرد مأساة إنسانية، بل قنبلة موقوتة تهدد بزعزعة الاستقرار في منطقة تعاني أصلاً من صراعات سياسية واثنية ودينية وطائفية واقتصادية، بيد ان الحل الوحيد يكمن في إنهاء الاحتلال وتمكين الفلسطينيين من إقامة دولتهم المستقلة وفقاً للشرعية الدولية، دون ذلك، ستبقى المنطقة بيئة خصبة للتطرف بكل اشكاله ومظاهره وساحة للصراعات والحروب، وستدفع الاجيال القادمة ثمن أخطاء الماضي، بينما ستبقى منطقة الشرق الأوسط برمتها تترنح على حافة الانهيار أو ستكون كالبركان الكامن القابل للانفجار في اية لحظة.