في تجربة شخصية صغيرة شعرت بغربة على المستوى الانساني، حيث كنت في مدينة جديدة وبحثت عن مطعم ذي صيت، طبعا استخدمت برنامج الخرائط ولكن للأسف جعلني أدور في دائرة ضيقة دون الوصول لوجهتي النهائية، لذا اضطررت لسؤال المحيطين من أصحاب المحلات والعاملين فيها وفي خدمات التوصيل، وتفاجأت بأنهم لم يستطيعوا التعرف على المكان ولجأوا لتطبيق الخرائط دون جدوى..
أثبتت لي هذه التجربة لحد ما أن عدم وجود تجربة قوية إنسانيا في عالمنا الحالي يعني انك غير موجود ذهنيا. واستنتجت أن اعتمادنا على التطبيقات والبرامج لاتخاذ قرار أو الحصول على معلومة أو خدمة دون أي بعد تفاعلي أنساني جعلنا معزولين عن محيطنا دون أن نشعر، حيث يعيد الذكاء الاصطناعي ووسائل التواصل الاجتماعي كيفية تفاعلنا وعملنا وإدراكنا للعالم، والراحة والفرص التي تقدمها هذه التقنيات لا يمكن الاستمرار بدونها لأنها اصبحت ضرورة غير قابلة للتفاوض، إلا أنها أضعفت النسيج الاجتماعي الذي يربطنا بطرق محسوسة وجها لوجه واعتمادنا المتزايد على الحقائق الاصطناعية يبرز فجوة متزايدة في التجارب الإنسانية الحقيقية التي تشكل هوية الإنسان ومشاعره.
لا أحاول انتقاد أو محاربة التقنيات لأنها أصبحت جزءاً أساسياً من حياتنا اليومية والمهنية وتقوم بوظائف متعددة مثل البرمجة والتطبيب والخدمات القانونية وغيرها وأنا شخصيا أعتمد عليها..
ما أحاول إبرازه هنا حاجتنا الملحة للمحافظة على إنسانيتنا وهويتنا في خضم تغيرنا هذا لأنه لا محال يخلق تبعات مختلفة للفرد والمجتمع، قد تكون أمراضاً نفسية واجتماعية جديدة تحتاج تدخلا سريعا من ذوي الاختصاص، فنحن في خضم هذه الثورة الصناعية بتنا في أمس الحاجة لهذه التخصصات أكثر من أي وقت مضى لنفهم أنفسنا ونحافظ عليها.
إن الخطر يكمن في تصميم هذه الأدوات التي تقوم بمحاكاة وتعزيز تفاعلاتنا حيث تفرز محتوى أو تعطيه أفضلية الوصول إلينا بناء على تفضيلاتنا وتجاربنا اليومية بعد قراءتها وتحليلها وتقدم المساحات الافتراضية تجارب غامرة تشعرنا نوعا ما بالسيطرة على مجريات حياتنا ولكن في الواقع هي من تفرض علينا قراراتنا دون أدنى اعتبار لمشاعرنا أو مشاعر المحيطين بنا وكذلك تنشر أنماطاً محددة من الحياة قد تكون غير حقيقية وغير قابلة للتطبيق في جميع المساقات وفي نفس الوقت تقلل أو أحيانا تلغي حاجتنا للآخر. وبالتالي هذا يحتاج منا جهودا مضاعفة لتحليل دراسة تأثيرها على مختلف المجتمعات ونوعيتها والفئات العمرية المختلفة وهو ما يخلق نزاعات وصراعات نفسية شخصية واجتماعية وكذلك اقتصادية حيث أن هذه التطورات تدعم مفهوم الاقتصاد الفردي البحت وقد ألغى حتى مفهوم الأسرة النووية التي تتضمن عدداً محدوداً من الأشخاص قد يجمعهم مكان واحد ولكن لكل منهم اهتماماته وتفضيلاته الخاصة..
مثلا لم تعد مشاركة العائلة في وجبة طعام رئيسية واحدة على الأقل يوميا من ممارساتنا أو اهتماماتنا حيث أن لكل فرد خياره الخاص وتوقيته الخاص لتناول وجبته الرئيسية بالتالي فقدنا تجربة المشاعر التي تتولد من مشاركة الطعام مع العائلة أو الإجماع على خيار واحد لكل العائلة، وبذلك ألغت التجارب الجماعية بأبسط صورها وبشكل دراماتيكي جعلتنا نحتاج للقوة والإرادة للتعايش مع هذا الواقع والسيطرة عليه قبل أن يحكم سيطرته علينا.
تقوم المنصات الاجتماعية بشكل خاص على تكميم القيمة الاجتماعية من خلال قياس التفاعلات عليها مما يشجع المستخدمين على السعي وراء تحقيق التفاعلات بدلا من الاتصال الحقيقي والنتيجة هي نشر ثقافة الأداء حيث يقوم الأفراد بتنسيق حياتهم لتلبية توقعات جمهور غير مرئي وهو جمهور متعطش ولكن تفاعله لحظي غير دائم، وهو ما قد يؤجج ظاهرة الشعور بالوحدة والقلق وانخفاض الإحساس بالذات وبالرغم من وجود آلاف الأصدقاء عبر الإنترنت يشعر العديد من المستخدمين بالوحدة وانفصالهم عن العالم الحقيقي.
قد يساعد بذل المحاولات الفردية لتفادي التأثيرات السلبية لهذه الأدوات، مثل إعطاء أولويات للتفاعلات الحقيقية ما أمكن وخلق أي فرصة للتفاعل الشخصي لتجربة المشاعر الإنسانية المتبادلة، أو تحديد زمن التعامل مع هذه المنصات والتفاعل الواعي معها لأنها تستهلك وقت وطاقة المستخدم وتوجهه للفراغ.
المحاولات الفردية لا يمكنها مواجهة هذا الزخم القادم إلينا وحدها ولكن هذه هي التغييرات الحقيقية التي تستوجب منا جهدا جماعيا لمواجهتها في سبيل الحفاظ على النسيج الاجتماعي ليس فقط في دراسات الأعمال وتحليل الأسواق بل دراسة وإعادة تصميم المقررات والمناهج التربوية وآلية طرحها ليس فقط من أجل تطوير المهارات الفنية لاستخدام هذه الأدوات وإنما كذلك إعادة تشكيل الكيانات الاجتماعية والإنسانية وتطوير المهارات الفردية الإنسانية لتنسجم وتتفاعل بحكمة مع التغييرات القائمة والقادمة.
إن التحدي ليس في رفض هذه الأدوات، ولكن في استخدامها بحكمة لنصنع منها جسورا بدلا من حواجز للاتصال، كذلك فإن استعادة غنى نسيجنا الاجتماعي ليس مجرد خيار شخصي بل هو مسؤولية جماعية يجب علينا جميعا العمل عليه.